أسماء بنت أبي بكر ( ذات النطاقين )

مقدمة
في سجل التاريخ الإسلامي المضيء، تتلألأ أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما كنجمة ساطعة، تجسد قوة الإيمان، والشجاعة النادرة، والفطنة الوقادة، والصبر الجميل في أحلك الظروف. لم تكن أسماء مجرد ابنة أول الخلفاء الراشدين وأخت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما، بل كانت شخصية فريدة بذاتها، تركت بصمات واضحة في مسيرة الدعوة الإسلامية منذ بدايتها في مكة المكرمة وحتى آخر أيام حياتها في المدينة المنورة. لقبت بـ “ذات النطاقين” لقصتها الشهيرة أثناء هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأبيها، حيث شقت نطاقها لتربط به طعاميهما، فبشرها النبي صلى الله عليه وسلم بنطاقين في الجنة. إن حياة أسماء رضي الله عنها تمثل نموذجًا للمرأة المسلمة الصادقة، التي جمعت بين قوة الروح وصلابة الموقف، وبين الرقة والعطاء والإيمان العميق. دراسة سيرتها العطرة تكشف لنا عن جوانب عظيمة من تضحيات الصحابة الأوائل ودور المرأة المسلمة في بناء هذا الدين العظيم.
لم تقتصر أهمية أسماء بنت أبي بكر على دورها البطولي أثناء الهجرة النبوية، بل امتدت لتشمل مشاركتها الفاعلة في الأحداث الكبرى التي شهدها صدر الإسلام. كانت رضي الله عنها راوية للحديث، وعاشت زمنًا طويلاً شهد تقلبات سياسية واجتماعية جسيمة، وظلت طوال حياتها مثالًا للصبر والثبات على المبدأ. كما تجلت قوتها وشجاعتها بشكل خاص في مواقفها الحاسمة مع زوجها الزبير بن العوام وابنها عبد الله بن الزبير رضي الله عنهم جميعًا، وحتى في مواجهتها للظالم الحجاج بن يوسف الثقفي بعد مقتل ابنها. إن تتبع محطات حياتها المختلفة يُظهر لنا عمق إيمانها وقوة شخصيتها وقدرتها على التأثير في محيطها.
نشأة أسماء وإسلامها المبكر ولقبها “ذات النطاقين”
ولدت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قبل الهجرة النبوية بسبع وعشرين سنة، وكانت أسن من أختها عائشة ببضع عشرة سنة. أسلمت رضي الله عنها في مكة المكرمة في بداية الدعوة الإسلامية، بعد سبعة عشر شخصًا فقط، مما يدل على سبقها وإيمانها الراسخ منذ صغر سنها.
أما لقبها الشهير “ذات النطاقين”، فقد اكتسبته رضي الله عنها خلال هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأبيها أبي بكر الصديق رضي الله عنهما من مكة إلى المدينة. عندما أعدت أسماء لهما الزاد والسفرة، ولم تجد ما تربط به الوعاء، شقت نطاقها (وهو ما تشد به المرأة وسطها) نصفين، فربطت بنصفه الطعام وبالنصف الآخر الوعاء. فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، قال لها: “أبدلك الله بنطاقك هذا نطاقين في الجنة”.
هذا الموقف البطولي يدل على فطنتها وسرعة بديهتها وإخلاصها وتفانيها في خدمة النبي صلى الله عليه وسلم وأبيها في أصعب الظروف.
دورها المحوري في الهجرة النبوية
لم يقتصر دور أسماء رضي الله عنها في الهجرة على تهيئة الطعام وربطه، بل امتد ليشمل جوانب أخرى حاسمة ساهمت في نجاح هذه الرحلة التاريخية. كانت رضي الله عنها تزورهما في غار ثور ليلاً، تحمل إليهما الطعام والأخبار، وتتحدى بذلك مخاطر بطش قريش وملاحقتهم. كانت تكتم سر وجود النبي صلى الله عليه وسلم وأبيها في الغار عن أعين المشركين، وعندما سألها أبو جهل عن مكان أبيها، لم تفش له سرًا رغم تعرضها للأذى والضرب الشديد حتى سقط قرطها من أذنها.
بصبرها وشجاعتها وكتمانها للسر، لعبت أسماء رضي الله عنها دورًا حيويًا في إنجاح خطة الهجرة وحماية النبي صلى الله عليه وسلم وأبيها من أيدي المشركين.
حياتها الزوجية وصبرها على الشدائد
تزوجت أسماء رضي الله عنها من الصحابي الجليل الزبير بن العوام رضي الله عنه، وكان في بداية حياته فقيرًا. صبرت أسماء على ضيق ذات اليد وعاشت معه حياة بسيطة، بل وكانت تساعده في أعماله، فكانت تسوس الخيل وتنقل النوى على رأسها لمسافات طويلة. لم تشكُ يومًا من فقر زوجها، بل كانت نموذجًا للزوجة الصالحة التي تدعم زوجها في السراء والضراء.
لاحقًا، وبعد اتساع الرزق على المسلمين، عاشت أسماء حياة أكثر يسراً، ولكنها ظلت معروفة بكرمها وسخائها وعطائها للمحتاجين.
شجاعتها وقوتها في وجه الفتن
تجلى صبر أسماء وشجاعتها بشكل خاص في مواقفها الصعبة خلال الفتن التي عصفت بالمسلمين في أواخر حياتها. فقد شهدت مقتل ابنها عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، الذي تولى الخلافة في فترة عصيبة، على يد جيش بني أمية بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي.
عندما دخل الحجاج مكة وهو منتصر وقام بصلب ابنها عبد الله، دخلت عليه أسماء رضي الله عنها وكانت عجوزًا قد فقدت بصرها، وواجهته بشجاعة وقوة وثبات على الحق، ولم تخف بطشه ولم تتوان في توبيخه على فعله الشنيع. قالت له كلمتها المشهورة: “أما آن لهذا الراكب أن ينزل؟” في إشارة إلى جثة ابنها المصلوبة. وعندما حاول الحجاج التقليل من شأن ابنها، دافعت عنه بشجاعة وذكرت فضائله واستقامته.
هذا الموقف البطولي يظهر قوة إيمانها وصبرها وثباتها في وجه الظلم والطغيان.
علمها وفضلها وروايتها للحديث
كانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما من الصحابيات الفاضلات والعالمات، وقد روت عن النبي صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث نبوية شريفة. بلغ مسندها ثمانية وخمسين حديثًا، اتفق لها البخاري ومسلم على ثلاثة عشر حديثًا، وانفرد البخاري بخمسة ومسلم بأربعة.
وقد أخذ عنها العلم والحديث عدد من التابعين، منهم ابناها عبد الله وعروة بن الزبير، وحفيدها عبد الله بن عروة وغيرهم.
وفاتها وعمرها المديد
عاشت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها عمرًا طويلاً مباركًا، وشهدت أحداثًا جسامًا في تاريخ الإسلام. توفيت رضي الله عنها في المدينة المنورة بعد مقتل ابنها عبد الله بن الزبير بعدة ليالٍ، وقيل بعد مائة يوم من مقتله، وكانت آخر المهاجرات وفاة، وقد بلغت من العمر مائة سنة، ولم يسقط لها سن ولم ينكر لها عقل، رحمها الله ورضي عنها.
الخاتمة
تُعد أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما نموذجًا فريدًا للمرأة المسلمة القوية المؤمنة الصابرة الشجاعة الفطنة. لقد تركت بصمات واضحة في تاريخ الإسلام منذ بدايته، بدءًا بدورها البطولي في الهجرة النبوية ولقبها الخالد “ذات النطاقين”، مرورًا بحياتها الزوجية وصبرها على الشدائد، ووصولًا إلى مواقفها الشجاعة في وجه الفتن وثباتها على الحق حتى آخر أيام حياتها. إن سيرتها العطرة مليئة بالدروس والعبر والقيم النبيلة التي تستلهم منها النساء المسلمات في كل زمان ومكان معاني الإيمان الصادق والتضحية والعطاء والشجاعة والصبر. أسماء رضي الله عنها ليست مجرد اسم في سجل التاريخ، بل هي قدوة ومثال حي للمرأة المسلمة العظيمة التي جمعت بين قوة الروح وصلابة الموقف، وبين الإيمان العميق والعمل الصالح. رحم الله أسماء بنت أبي بكر ورضي عنها وأرضاها، وجعلها من سيدات أهل الجنة.