عقيدة المسلمين في نبي الله عيسى عليه السلام

مقدمة

يُعد الإيمان بعيسى ابن مريم عليه السلام نبيًا ورسولًا من أولي العزم من الرسل، ركنًا أصيلًا من أركان الإيمان في الإسلام. يؤمن المسلمون بنبوته ورسالته، وبأنه اصطفاه الله تعالى واختاره، وأيده بالمعجزات الباهرات، وولِد من أمٍّ طاهرةٍ عذراءٍ هي مريم البتول عليها السلام. يُجلّ المسلمون عيسى عليه السلام ويحبونه، ويذكرونه في صلاتهم وفي سائر أحوالهم بالثناء والتقدير. إلا أن عقيدة المسلمين فيه تختلف جذريًا عن عقائد أخرى غلت فيه ورفعتْه فوق منزلته التي أنزله الله إياها، كاعتقاد البعض بألوهيته أو بنوته لله أو كونه جزءًا من ثالوث. لقد حذر الإسلام بشدة من الغلو في الأنبياء والصالحين عمومًا، وفي عيسى ابن مريم عليه السلام خصوصًا، لأن ذلك يُعد انحرافًا عن التوحيد الخالص ووقوعًا في الشرك الذي هو أعظم الذنوب. إن فهم العقيدة الإسلامية الصحيحة في نبي الله عيسى ابن مريم عليه السلام، وبيان مكانته الرفيعة وخصائصه التي خصه الله بها، والتحذير من تجاوز الحد في تعظيمه ورفعه فوق منزلته البشرية، يمثل ضرورة لكل مسلم يسعى للاعتدال في دينه وتجنب الغلو والتقصير على حد سواء، والوقوف على الحق كما أنزله الله تعالى.

لم يكن تكريم عيسى عليه السلام في الإسلام مجرد إقرار بنبوته وولادته المعجزة، بل يتضمن محبته وتوقيره واتباع ما صحّ من شرعه قبل نسخه بشريعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. يؤمن المسلمون بأنه عبد الله ورسوله وكلمته التي ألقاها إلى مريم وروح منه، وأنه سيَنزل في آخر الزمان حكمًا عدلًا بشريعة الإسلام. إن الغلو فيه يؤدي إلى صرف أنواع من العبادة له أو نسب صفات الألوهية إليه، وهو ما نهى الله عنه ورسوله أشد النهي. لذا، فإن تحقيق التوازن بين تكريم عيسى عليه السلام كنبي ورسول وبين إفراد الله بالعبادة هو من صميم عقيدة المسلم.

يهدف هذا البحث إلى استجلاء عقيدة المسلمين الصحيحة في نبي الله عيسى ابن مريم عليه السلام، وبيان الأدلة من القرآن والسنة على مكانته الرفيعة وولادته المعجزة ومعجزاته، وتسليط الضوء على التحذيرات الشديدة من الغلو فيه ورفعه فوق منزلته البشرية، واستعراض صور الغلو التي وقعت فيها بعض الطوائف، وتوضيح الموقف الإسلامي الوسطي الذي يكرم عيسى عليه السلام كنبي ورسول مع إفراد الله بالعبادة وحده، بالإضافة إلى إبراز أهمية هذا الفهم الصحيح في الحفاظ على نقاء التوحيد والبعد عن الشرك واتباع الحق كما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. سنسعى لتقديم بحث شامل ومفصل لهذه القضية الهامة في العقيدة الإسلامية.

 

مكانة نبي الله عيسى ابن مريم عليه السلام في الإسلام

يتبوأ نبي الله عيسى ابن مريم عليه السلام مكانة عظيمة ورفيعة في الإسلام، فهو من أولي العزم من الرسل ومن خير الأنبياء، وتتجلى هذه المكانة في جوانب عديدة:

  • نبوته ورسالته: يؤمن المسلمون بنبوة عيسى عليه السلام ورسالته التي أرسله الله بها إلى بني إسرائيل. قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (الصف: 6).  
  • ولادته المعجزة: يؤمن المسلمون بأن عيسى عليه السلام وُلِد من أمّه الطاهرة مريم البتول عليها السلام من غير أب، وذلك بقدرة الله تعالى. قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (آل عمران: 59).
  • كونه “كلمة الله وروحه منه”: يصفه القرآن الكريم بأنه “كلمة الله” التي ألقاها إلى مريم و”روح منه” تشريفًا له. قال تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} (النساء: 171).  
  • تأييده بالمعجزات الباهرات: أيد الله عيسى عليه السلام بمعجزات عظيمة تدل على صدق نبوته، كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله، والإنباء بالغيوب. قال تعالى: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران: 49).  
  • رفعه إلى السماء: يؤمن المسلمون بأن الله تعالى رفع عيسى عليه السلام بجسده وروحه إلى السماء، وأنه لم يُقتل ولم يُصلب كما زعم اليهود. قال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (النساء: 157-158).  
  • نزوله في آخر الزمان: يؤمن المسلمون بنزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان حكمًا عدلًا بشريعة الإسلام، وأنه سيقتل الدجال ويكسر الصليب ويضع الجزية ويتزوج ويولد له ثم يموت ويصلي عليه المسلمون.

الأدلة من القرآن والسنة على مكانة عيسى عليه السلام وخصائصه

وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة آيات وأحاديث كثيرة تدل على مكانة عيسى عليه السلام وخصائصه:

من القرآن الكريم: الآيات المذكورة في النقطة الأولى أعلاه، بالإضافة إلى ثناء الله عليه وعلى أمه مريم في مواضع عديدة، ووصفه بأنه من الصالحين والقانتين.

من السنة النبوية الشريفة:

  • ذكره صلى الله عليه وسلم لعيسى عليه السلام في جملة الأنبياء والمرسلين.
  • الإخبار عن نزوله في آخر الزمان وأفعاله.
  • قوله صلى الله عليه وسلم: “أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم، الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد”.

التحذيرات الشديدة من الغلو في عيسى عليه السلام ورفعه فوق منزلته البشرية

حذر الإسلام بشدة من الغلو في عيسى ابن مريم عليه السلام ورفعه فوق منزلته التي أنزله الله إياها، كما حذر من الغلو في سائر الأنبياء والصالحين، لما في ذلك من محادة لله تعالى ووقوع في الشرك:

  • بيان أنه عبد الله ورسوله: أكد القرآن الكريم على عبودية عيسى عليه السلام لله ورسالته منه. قال تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} (النساء: 171-172).  
  • النهي عن القول بألوهيته أو بنوته لله: رد القرآن الكريم بشدة على من قال بألوهية عيسى أو بنوته لله. قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} (المائدة: 17)، وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (التوبة: 30).  
  • التحذير من اتخاذه إلهًا من دون الله: نهى الإسلام عن عبادة عيسى عليه السلام أو دعائه من دون الله. قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (المائدة: 116).  

صور الغلو في عيسى عليه السلام التي وقعت فيها بعض الطوائف

لقد وقعت بعض الطوائف في الغلو في عيسى ابن مريم عليه السلام مما أدى إلى انحراف عقيدتهم، ومن أبرز هذه الصور:

  • اعتقاد ألوهيته: كما هو معتقد غالب النصارى بأنه هو الله أو ابن الله أو جزء من ثالوث إلهي.
  • عبادته من دون الله: بالدعاء والاستغاثة به والتوجه إليه بالعبادات التي لا تستحق إلا لله.
  • اتخاذ قبره أو صوره أو تماثيله أماكن للعبادة والتبرك.
  • المبالغة في وصفه بصفات لا تليق إلا بالله تعالى.

وقد بين الإسلام بوضوح بطلان هذه المعتقدات وأنها تنافي التوحيد الخالص الذي جاء به جميع الأنبياء.

 

الموقف الإسلامي الوسطي الذي يكرم عيسى عليه السلام

يتميز الموقف الإسلامي تجاه عيسى ابن مريم عليه السلام بالاعتدال والتوازن، فهو يكرمه ويجله ويؤمن بنبوته ورسالته وولادته المعجزة ومعجزاته، وفي الوقت نفسه يفرده بالعبادة وحده لا شريك له. يتجلى هذا الموقف الوسطي في:

  • الإيمان بنبوته ورسالته وأنه عبد الله ورسوله.
  • محبة عيسى عليه السلام وتوقيره وتعظيمه بما يليق بمقام النبوة.
  • الاقتداء بما صح من شرعه قبل نسخه.
  • الصلاة والسلام عليه وعلى سائر الأنبياء.
  • الإيمان برفعه إلى السماء ونزوله في آخر الزمان.
  • رفض الغلو فيه ورفععه إلى مرتبة الألوهية أو بنوة الله.
  • إفراد الله وحده بالعبادة والدعاء والاستعانة والتوكل والنذر والذبح.
  • الحذر من البدع والمحدثات التي تخالف هدي الأنبياء.

أهمية الفهم الصحيح لعقيدة المسلمين في عيسى عليه السلام

إن الفهم الصحيح لعقيدة المسلمين في نبي الله عيسى ابن مريم عليه السلام هو صمام الأمان للحفاظ على نقاء التوحيد وتجنب الوقوع في الشرك. فعندما يدرك المسلم المنزلة الحقيقية لعيسى عليه السلام كنبي ورسول عظيم من رسل الله، وأنه عبد مخلوق لا يستحق العبادة، فإنه يكرمه ويحبه دون أن يرفعّه إلى مرتبة الألوهية أو يصرف له شيئًا من أنواع العبادة التي لا تستحق إلا لله وحده. إن الوقوع في الغلو في عيسى عليه السلام هو عين ما حذر منه الإسلام وذمّ أهله، وهو من أعظم أسباب الانحراف عن التوحيد. لذا، فإن تعليم المسلمين العقيدة الصحيحة في جميع الأنبياء، وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى ابن مريم عليه السلام، هو من أهم الواجبات للحفاظ على سلامة العقيدة.

 

الخاتمة

إن عقيدة المسلمين في نبي الله عيسى ابن مريم عليه السلام هي عقيدة وسطية قائمة على الإيمان بنبوته ورسالته وولادته المعجزة ومعجزاته، مع التأكيد على أنه عبد الله ورسوله المصطفى، وأنه لا يستحق العبادة من دون الله. لقد حذر الإسلام بشدة من الغلو فيه ورفعه فوق منزلته البشرية، كما حذر من الغلو في سائر الأنبياء والصالحين. إن الموقف الإسلامي الصحيح هو محبة عيسى عليه السلام وتوقيره والإيمان به كنبي ورسول مع إفراد الله وحده بالعبادة. فلنسع جميعًا إلى فهم هذه العقيدة الصحيحة والعمل بمقتضاها، سائلين الله تعالى أن يرزقنا الإيمان الحق والاتباع السليم لهدي أنبيائه ورسله، وأن يحفظنا من الغلو والتقصير والوقوع في الشرك. إن اتباع الحق كما أنزله الله هو سبيل النجاة والفلاح في الدنيا والآخرة.

روابط تحميل البحث

تحميل البحث

تحميل البحث