جمع القرآن الكريم
من الصحف المتفرّقة إلى المصحف الشريف .. رحلة حفظ إلهيّ خالدة عبر الأزمان

المقدمة
القرآن الكريم، كتاب الله الخالد، ومعجزة الإسلام الكبرى، لم يكن مجرد وحي يتنزّل على النبي ﷺ ليقرأه على الناس، بل هو نور يهدي، وتشريع يُنظّم، وذكرٌ يربط الأرض بالسماء. وقد تولّى الله حفظه بنفسه، فقال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ، وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ الحجر: 9
ورغم التحديات التي مرّت بها الأمة من فتن وحروب، ظلّ القرآن محفوظًا في الصدور، ومسطورًا في السطور، يقرؤه الناس جيلاً بعد جيل، دون أن يطاله تحريف أو نقص. لكن وراء هذه النعمة الإلهية يقف جهد بشري جليل قام به صحابة رسول الله ﷺ، في جمع القرآن وتدوينه في عهد النبي، ثم في خلافة أبي بكر الصديق، ثم في عهد عثمان بن عفان، مما يُعد من أعظم الأعمال في تاريخ الأمة الإسلامية.
في هذا البحث، نُسلّط الضوء على مراحل جمع القرآن الكريم، بدءًا من جمعه في عهد النبي ﷺ، ثم جمعه مكتوبًا في عهد الخلفاء الراشدين، مع التعريج على الأسباب، والطريقة، والمواقف الحاسمة، والتحديات التي واكبت هذه المهمة التاريخية. كما نبيّن كيف أن جمع القرآن كان عملاً جماعيًا نقيًا، خالصًا لله، بعيدًا عن الأهواء، وقد تم بأمانة ودقة لا نظير لهما في تاريخ النصوص.
نزول القرآن الكريم وتوثيقه في عهد النبي ﷺ
تنزُّل القرآن مفرقًا: نزل القرآن الكريم على قلب النبي ﷺ مُنجّمًا (مُفرّقًا)، على مدى ثلاث وعشرين سنة، لحكمة عظيمة، منها:
- تثبيت فؤاد النبي ﷺ ومواكبة الأحداث.
- التدرج في التشريع.
- الرد على الشبهات والأسئلة في وقتها.
- تسهيل الحفظ على الصحابة.
قال تعالى: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ، وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا﴾ الإسراء: 106
كتابة القرآن في عهد النبي ﷺ: رغم أن وسائل التوثيق آنذاك كانت بدائية، إلا أن النبي ﷺ أولى عناية خاصة بتوثيق القرآن. فكان إذا نزل عليه الوحي، دعا كُتّاب الوحي وأملى عليهم ما أنزل الله. ومن أشهرهم: زيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان، وعبد الله بن مسعود، وعلي بن أبي طالب.
وكانت الكتابة تتم على مواد متوفّرة مثل:
- الرقاع (قطع الجلد)
- الحجارة الرقيقة
- عُسب النخل (جريد النخل)
- الأكتاف (عظام الحيوانات الكبيرة)
- اللخاف (الحجارة البيضاء)
وقد كان الترتيب الذي يُمليه النبي ﷺ ترتيبًا توقيفيًا، أي بوحي من الله، لا وفقًا لتاريخ النزول.
الحفظ في الصدور: إلى جانب التدوين، اعتمد الصحابة على الحفظ في الصدور، وكان ذلك وسيلة أساسية في نقل القرآن، بل يُعدّ الصحابة من أدقّ الحُفّاظ في تاريخ البشرية. فقد كان منهم المئات ممن حفظوا القرآن كاملًا، وكان يُعرض على النبي ﷺ في كل عام، وفي آخر سنة عُرض عليه مرتين.
جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق
السبب الرئيسي للجمع: بعد وفاة النبي ﷺ، بدأت الفتوحات، ووقعت معركة اليمامة التي استُشهد فيها عدد كبير من حُفّاظ القرآن، مما أثار خوف الصحابة من ضياع شيء من القرآن بموت الحفاظ.
فجاء الصحابي عمر بن الخطاب إلى الخليفة أبي بكر الصديق واقترح عليه أن يُجمع القرآن في مصحف واحد. فتردد أبو بكر في البداية، وقال: “كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله؟”، لكن عمر ألحّ عليه، حتى شرح الله صدره، وقال: “والله إنه خير”.
مَن تولّى المهمة: كُلّف زيد بن ثابت الأنصاري بجمع القرآن، لما كان له من قرب من النبي، وإلمام بالقرآن، وذكاء شديد.
منهجية الجمع: كان زيد يجمع القرآن من:
- المكتوب عند الصحابة
- ومن الحفّاظ، شريطة أن يُشهد على كل آية شاهدين من الصحابة حفظًا وكتابةً
وقد قال زيد: “لو كُلِّفت بنقل جبل من مكانه لكان أهون عليّ من جمع القرآن”.
نتيجة الجمع: تم جمع القرآن كاملاً في مصحف واحد، واحتُفظ به عند أبي بكر الصديق، ثم عند عمر، ثم عند ابنته حفصة بنت عمر، زوج النبي ﷺ.
جمع القرآن في عهد عثمان بن عفان
اختلاف القراءات وانتشار اللهجات: مع توسع الفتوحات، ودخول أقوام جدد في الإسلام، بدأت تظهر اختلافات في قراءات القرآن بين المسلمين في الأمصار، كل يقرأ بلهجة قبيلته أو على طريقة معلميه، فكان بعضهم يُخطّئ بعضًا. فخاف الصحابة أن يؤدي هذا الاختلاف إلى فتنة أو تحريف، فاستشار الخليفة عثمان بن عفان الصحابة، فوافقوه على ضرورة توحيد المصحف.
لجنة النسخ والتوحيد: شكّل عثمان لجنة من كبار القرّاء، برئاسة زيد بن ثابت، ومعه عبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث. وتم النسخ من المصحف الذي كان عند حفصة، بأمر رسمي، مع مراجعة دقيقة، واعتماد اللسان القُرشي في حال الاختلاف.
إرسال المصاحف إلى الأمصار: بعد الانتهاء من المصاحف، أُرسلت نسخ إلى:
- مكة
- الكوفة
- البصرة
- الشام
- اليمن
- البحرين
وأُمر الناس أن يلتزموا بها، وأُحرقت ما عداها من المصاحف الخاصة التي فيها اختلاف.
هذا الجمع هو ما يُعرف بـ**”مصحف عثمان”**، وهو ما بين أيدينا اليوم، محفوظًا كما نزل من عند الله.
الفرق بين الجمع في العهدين
- في عهد أبي بكر: جمع لحفظ القرآن من الضياع، بعد استشهاد القرّاء، وكان جمعًا في مصحف واحد غير متداول.
- في عهد عثمان: جمع لتوحيد القراءة واللفظ، وكان نشرًا رسميًا للمصحف المعتمد.
حفظ الله للقرآن إلى يومنا هذا
منذ أن نزل القرآن وحتى اليوم، لم يتغيّر فيه حرف، وقد حفِظه الملايين في صدورهم، وطُبع بالمليارات، وترجِم إلى مئات اللغات، وبقي النص الأصلي بالعربية محفوظًا في كل بلد، وفي كل مسجد، وفي كل بيت مسلم.
وقد وعد الله بحفظه، وتكفّل به دون غيره من الكتب السابقة، لأن الإسلام هو الرسالة الخاتمة، والقرآن هو الدستور الأبدي.
الخاتمة
رحلة جمع القرآن الكريم ليست فقط إنجازًا تاريخيًا، بل هي تجلٍّ من أعظم تجليات حفظ الله لكتابه، وقد شارك فيها خير البشر بعد الأنبياء، الصحابة الكرام، بإخلاص وحرص عظيم. فخرج لنا هذا المصحف الشريف الذي تتناقله الأجيال، ويتلونه في صلاتهم، ويحفظونه في صدورهم، ويدرسونه في بيوتهم ومدارسهم.
وإن من الوفاء لهذا الكتاب أن نحافظ عليه، لا بالحفظ فحسب، بل بالفهم والتدبر والعمل به، وأن نعلم أبناءنا كيف نقرأه كما أُنزِل، وكيف نعيشه كما عاشه النبي ﷺ وصحابته.
اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وقائدنا إلى رضوانك وجنتك.