يوم عرفة
ذروة الحج ويوم المغفرة والعتق من النيران

مقدمة
يتبوأ يوم عرفة مكانة عظيمة وجليلة في الشريعة الإسلامية، فهو اليوم التاسع من شهر ذي الحجة، ويُعد بحق ذروة مناسك الحج وركنه الأعظم، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة». إنه يوم مشهود، تتنزل فيه الرحمات، وتغفر فيه الذنوب، وتُعتق فيه الرقاب من النيران، ويباهي الله عز وجل بأهل عرفات ملائكته الكرام. إنه يوم إكمال الدين وإتمام النعمة على المسلمين. يستشعر فيه الحجاج القادمون من شتى بقاع الأرض وحدة الهدف والغاية، ويتضرعون إلى الله بقلوب خاشعة وألسنة ذاكرة، راجين عفوه ورضوانه. كما أن ليوم عرفة فضلًا عظيمًا وبركة شاملة لغير الحجاج أيضًا، حيث يُسن فيه الصيام والإكثار من الدعاء والذكر والاستغفار. إن فهم فضل هذا اليوم العظيم وأهميته، والتعرف على الأعمال المستحبة فيه وأحكامه الشرعية، يمثل مفتاحًا لاغتنام نفحاته وبركاته، والسعي لنيل عظيم الأجر والثواب المترتب عليه.
فضل يوم عرفة وعظيم منزلته في الشريعة الإسلامية
يوم عرفة ليس مجرد يوم من أيام السنة، بل هو يوم له خصائص وفضائل عظيمة تميزه عن غيره:
- ركن الحج الأعظم: لا يصح الحج إلا بالوقوف بعرفة في وقته المحدد، فمن فاته الوقوف بعرفة فاته الحج.
- يوم إكمال الدين وإتمام النعمة: نزلت فيه الآية الكريمة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. وقد نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة يوم جمعة، فاجتمع فيه فضيلة الزمان والمكان.
- يوم المغفرة والعتق من النار: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ». وهذا يدل على عظيم فضل الله ورحمته في هذا اليوم.
- يوم يباهي الله به الملائكة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي مَلَائِكَتَهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِأَهْلِ عَرَفَةَ، يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا». وهذا يدل على منزلة أهل عرفة عند الله تعالى.
- خير أيام الدعاء: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ». وهذا يحث المسلم على الإكثار من الدعاء في هذا اليوم العظيم.
- صيامه يكفر سنتين: قال النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة لغير الحاج: «أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ».
أعمال يوم عرفة المستحبة للحجاج
يستحب للحجاج في يوم عرفة الإكثار من الأعمال الصالحة والاجتهاد في العبادة، ومن أبرز هذه الأعمال:
- الوقوف بعرفة: وهو الركن الأعظم للحج، ويبدأ من زوال شمس يوم التاسع من ذي الحجة ويمتد إلى طلوع فجر يوم العاشر. ويجب على الحاج أن يستغل هذا الوقت في الدعاء والذكر والتضرع إلى الله تعالى.
- صلاة الظهر والعصر جمع تقديم وقصرًا: يصلي الحجاج في عرفة صلاتي الظهر والعصر جمع تقديم في وقت الظهر، ويقصرون الرباعية إلى ركعتين، بأذان واحد وإقامتين.
- الإكثار من الدعاء والتضرع: يستحب للحاج أن يكثر من الدعاء والتضرع إلى الله تعالى بقلب خاشع ولسان ذاكر، وأن يلح في المسألة، فهو يوم عظيم لإجابة الدعوات.
- التلبية: الإكثار من التلبية ورفع الصوت بها سنة مؤكدة للحجاج في يوم عرفة حتى رمي جمرة العقبة يوم النحر.
- الذكر والاستغفار: الاشتغال بذكر الله تعالى وتسبيحه وتحميده وتهليله وتكبيره، والإكثار من الاستغفار من الذنوب والخطايا.
- قراءة القرآن الكريم: تلاوة القرآن الكريم وتدبر معانيه من أفضل الأعمال في هذا اليوم.
- التوجه إلى الله بقلب خاشع: استشعار عظمة الله تعالى واللجوء إليه بصدق وإخلاص.
أعمال يوم عرفة المستحبة لغير الحجاج
يُسن لغير الحجاج في يوم عرفة الاجتهاد في الأعمال الصالحة أيضًا، ومن أهمها:
- صيام يوم عرفة: لما ورد في فضله من تكفير الذنوب سنتين. ويستثنى من ذلك الحاج، فلا يسن له صيام يوم عرفة ليتقوى على الدعاء والذكر.
- الإكثار من الدعاء: الاقتداء بالحجاج في الإكثار من الدعاء والتضرع إلى الله تعالى، فهو يوم عظيم لإجابة الدعوات.
- الذكر والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير: الاشتغال بذكر الله تعالى بأنواع الذكر المختلفة.
- قراءة القرآن الكريم.
- الصدقة والإحسان.
- التوبة والاستغفار.
- صلة الأرحام.
أحكام تتعلق بيوم عرفة
توجد بعض الأحكام الشرعية المتعلقة بيوم عرفة:
- وقت الوقوف بعرفة: يبدأ من زوال شمس يوم التاسع من ذي الحجة ويمتد إلى طلوع فجر يوم العاشر. فمن أدرك جزءًا من هذا الوقت واقفًا بعرفة ولو لحظة، فقد أدرك الحج عند جمهور العلماء.
- مكان الوقوف بعرفة: يجب الوقوف داخل حدود عرفة الشرعية، ولا يجزئ الوقوف خارجها.
- طهارة الحاج عند الوقوف: لا يشترط الطهارة للوقوف بعرفة، فيجوز للحائض والنفساء وغير المتطهرين الوقوف والدعاء.
- الجمع والقصر في عرفة: يسن للحجاج جمع صلاتي الظهر والعصر جمع تقديم وقصرًا في وقت الظهر.
- الانصراف من عرفة: يسن للحجاج الانصراف من عرفة بعد غروب الشمس متجهين إلى مزدلفة.
الدروس والعبر المستفادة من يوم عرفة
يحمل يوم عرفة العديد من الدروس والعبر الروحية والإيمانية:
- التوحيد الخالص: يتجلى في هذا اليوم توحيد الأمة واجتماعها على صعيد واحد، متوجهة إلى رب واحد، تدعوه وتستغفره.
- التذلل والانكسار: وقوف الحجاج بثياب الإحرام البسيطة، شعثًا غبرًا، يجسد معنى التذلل والانكسار بين يدي الله تعالى.
- المساواة بين المسلمين: لا فرق في هذا اليوم بين غني وفقير أو حاكم ومحكوم، الجميع سواسية أمام الله.
- الأمل والرجاء في رحمة الله: يوم عرفة هو يوم عظيم للرجاء في مغفرة الله وعفوه ورحمته.
- التوبة والإنابة: هو فرصة للتوبة الصادقة والإنابة إلى الله تعالى وتجديد العهد معه.
- وحدة الأمة الإسلامية: اجتماع المسلمين من جميع أنحاء العالم في مكان واحد وزمان واحد يظهر وحدة الأمة وقوتها.
- التذكير باليوم الآخر: وقوف الناس في عرفة يذكر بيوم الحشر والوقوف بين يدي الله للحساب.
الخاتمة
يوم عرفة هو يوم عظيم القدر، نفحة ربانية، وفرصة ثمينة لا تقدر بثمن. إنه يوم المغفرة والرحمة والعتق من النيران، ويوم إكمال الدين وإتمام النعمة. حري بالمسلم حاجًا كان أو غير حاج أن يغتنم فضائل هذا اليوم بالإقبال على الله تعالى بأنواع الطاعات والقربات، والإكثار من الدعاء والتضرع والذكر والاستغفار، لعله أن يفوز بعظيم الأجر والثواب وينال رضا الله وجنته. نسأل الله تعالى أن يوفقنا لاغتنام فضل هذا اليوم وأن يتقبل منا صالح الأعمال.