الاستعانة بالله تعالى
سند القلب وقت الضعف، وقوة الروح في مواجهة الحياة

المقدمة
في طريق الحياة، حيث تتعاقب الأفراح والأتراح، وتتفاوت القدرات، وتتعدد التحديات، يجد الإنسان نفسه في حاجة دائمة إلى عون يتجاوز حدود قوّته، وسند لا يخونه، وأمل لا ينطفئ. ومع ازدحام الأسباب وتنوّع الوسائل، تبقى الاستعانة بالله تعالى هي الطريق الأصدق والأقوى، والأعمق أثرًا في القلب والعمل.
فالله سبحانه وتعالى هو القوي العزيز، الذي بيده مفاتيح السماوات والأرض، يُعطي من يشاء، ويهدي من يشاء، ويُسدّد من يشاء، ويأخذ بيد من يتوكل عليه، ويستعين به. ومن أسمائه الحسنى: “الوكيل”، “النصير”، “الهادي”، وهي كلها معانٍ تصبّ في معنى الاستعانة.
الاستعانة بالله ليست فقط قولًا يُردّد باللسان، بل هي مقام إيماني رفيع يجمع بين الاعتراف بالعجز، والثقة بقدرة الله، والعمل بالأسباب مع يقينٍ قلبي بأن التوفيق لا يكون إلا بإرادة الله. في هذا البحث، نستعرض مفهوم الاستعانة بالله، وأهميتها، ومظاهرها في حياة النبي ﷺ والصالحين، وآثارها النفسية والعملية، وكيف يُنمّيها المسلم في قلبه وسلوكه، لنعيش في ظلال هذا المعنى الإيماني الجليل.
معنى الاستعانة بالله
الاستعانة لغةً مأخوذة من: “عَانَ – يُعِينُ – إعانة”، أي: ساعد وسند. وأما شرعًا، فتعني: طلب العون من الله في جميع الأمور، الدنيوية والأخروية، صغيرها وكبيرها، ظاهرها وباطنها.
وهي لا تُنافي الأخذ بالأسباب، بل هي أصلٌ في التوحيد، وعمقٌ في التوكل، وجوهرٌ من جوهر العبودية. وقد جعلها الله تعالى جزءًا من فاتحة الكتاب، فقال:﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ الفاتحة: 5
فقدّم العبادة على الاستعانة لأن الاستعانة لا تُقبل إلا إذا كانت العبادة خالصة لله وحده.
والاستعانة بالله تشمل كل شؤون الحياة: في الدراسة، والعمل، والصبر، والتوبة، والرزق، والعلاقات، والهداية، والنصر، وغيرها، لأن الله وحده هو القادر، وهو المالك الحقيقي لكل شيء.
أهمية الاستعانة بالله
الاستعانة بالله تُحقق للعبد الراحة النفسية والثقة والقوة، وهي باب النجاة في الدنيا والآخرة، ومن أهم مظاهر أهميتها:
- أنها صفة الأنبياء: فما من نبيّ إلا وكان يعتمد على الله في دعوته ومحنته ونصره، كما في دعاء موسى عليه السلام: ﴿قَالَ كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ الشعراء: 62
- أنها مفتاح التوفيق: فالنجاح الحقيقي لا يكون بالحيلة ولا بالقوة فقط، بل بتوفيق الله، ومن استعان به سُدّد ووفق.
- أنها عبادة قلبية عظيمة: لا يشعر بحلاوتها إلا من ذاق ضعف النفس أمام صعوبات الحياة، ثم شعر بقوة الإسناد الإلهي.
- أنها تُغني العبد عن الخلق: فكلما تعلّق قلبه بربه، استغنى عن غيره، وارتفع عن الذل للناس، وسار إلى الله حرًّا عزيزًا.
صور ومظاهر الاستعانة بالله
الاستعانة بالله تظهر في كل جزء من حياة المسلم، ومن أبرز مظاهرها:
- في الصلاة: حين يفتتح المسلم يومه بالصلاة، يبدأها بالبسملة ثم بالفاتحة التي تتضمّن “إياك نستعين”، فيُعلن عبوديته واعتماده الكامل على الله.
- في الدعاء: الدعاء هو قمة الاستعانة، فحين يرفع العبد يديه، يعترف ضمنًا بضعفه، ويطلب القوة ممن يملكها وحده.
- في الأزمات والمصائب: حين يضيق الحال، ويُغلق الباب، يجد المسلم عزاءه في قوله: “حسبنا الله ونعم الوكيل”.
- في العمل والسعي: المسلم يسعى، لكن قلبه لا يتعلّق بالسعي، بل بالله الذي يُبارك السعي أو لا يُباركه.
- عند اتخاذ القرارات: عبر صلاة الاستخارة، يُسلّم العبد أمره لله، ليُدبّره له بما هو خير.
الاستعانة بالله في سيرة النبي ﷺ
كان رسول الله ﷺ أعظم من تجلّت فيه معاني الاستعانة. فقد كان يستعين بالله في كل أموره، وكان يُكثر من الدعاء والافتقار. ومن أبرز مواقفه:
- في الهجرة: حين طارده المشركون ووصلوا إلى باب الغار، قال لأبي بكر: “يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟”
- في بدر: رفع يديه طويلًا وقال: “اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تُعبد في الأرض” حتى سقط رداؤه من على كتفيه.
- في الطائف: بعد أن طُرد وسُبّ، رفع قلبه إلى الله وقال: “إن لم يكن بك غضبٌ عليّ فلا أُبالي، ولكن عافيتك أوسع لي…” وهكذا، لم يكن النبي ﷺ يستند إلى حولٍ ولا قوةٍ إلا بالله.
كيف نُحقق الاستعانة بالله في حياتنا؟
لتحقيق الاستعانة بالله عمليًا، لا بد من:
- صدق التوجه إلى الله: أن يكون القلب موقنًا أن لا حول ولا قوة إلا بالله، وأن الأسباب لا تنفع إلا بإذنه.
- الحرص على الدعاء الدائم: فالدعاء هو مفتاح كل خير، وهو تربية على الاعتماد الكامل على الله.
- المداومة على صلاة الاستخارة: في القرارات والمواقف، حتى يُبارك الله الطريق، ويُجنّب العبد الزلل.
- التوازن بين السبب والتوكل: لا يعني الاعتماد على الله ترك السعي، بل العمل ثم الاستناد على الله في النتيجة.
- المحافظة على الطاعات: فكلما زادت علاقتك بالله، كانت الاستعانة أصدق وأقرب للإجابة.
الخاتمة
الاستعانة بالله ليست ضعفًا ولا هروبًا، بل هي ذروة القوة والإيمان، لأن المستعين بالله لا تهزّه الأقدار، ولا تُرعبه الصعاب، ولا تُخيفه الظروف، لأنه يعلم أن له ربًّا كريمًا عزيزًا لا يُسلِم عبده، ولا يُخيّب من وثق به.
فليكن لسانك دائمًا يقول: “يا رب أعني”، وليكن قلبك معلّقًا بباب الله، ولتكن أعمالك مقرونة بدعاء الاستعانة، ففي ذلك نور لا يُطفأ، وسند لا يزول، وطمأنينة لا تُشترى.
“اللهم أعنّي على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك“ دعاءٌ عظيم علّمه النبي ﷺ لأحب الناس إليه، فليكن دُعاءنا كل صباح ومساء.