الخوف والرجاء

مقدمة

يُعد الخوف والرجاء من أعظم مقامات الإيمان وأجلّ منازل السائرين إلى الله تعالى. إنهما قوتان دافعتان تُحركان قلب المؤمن نحو الطاعة وتُبعدانه عن المعصية، وهما جناحان يطير بهما العبد في سماء العبودية إلى رحمة ربه ورضوانه. فالخوف يُذكره بعظمة الله وجلاله وعقابه الشديد، فيحمله على اجتناب المحرمات والتقصير في الواجبات، بينما الرجاء يُذكره بسعة رحمة الله وكرمه وعفوه، فيُحثه على الإقبال على الطاعات والاستغفار من الزلات. إن الجمع بين الخوف والرجاء في قلب المؤمن يُولد حالة من التوازن والاعتدال في سلوكه، فلا ييأس من رحمة الله ولا يأمن مكره، بل يسير إلى الله بين الخوف والرجاء، كما يسير المسافر بين الخوف من المهالك والرجاء في الوصول إلى مقصده. إن فهم حقيقة الخوف والرجاء وأنواعهما ومراتبهما وآثارهما في حياة المؤمن، والسبل الكفيلة بتحقيقهما والجمع بينهما، يمثل ضرورة حتمية لكل مسلم يسعى لكمال إيمانه ونيل رضا الله والفوز بجنته. فالقلب الخالي من الخوف والرجاء قلب ميت أو مريض، والعبد الذي لا يخاف ولا يرجو يسير في طريق الغفلة والضلال.

 

تعريف الخوف والرجاء وحقيقتهما في الإسلام

  • الخوف: هو انفعال قلبي يحدث عند توقع مكروه أو فوات محبوب، وهو في الاصطلاح الشرعي: “توقع العبد نزول عقوبة الله وسخطه بسبب ذنوبه وتقصيره في حقه”. وهو شعور بالوجل والانقباض في القلب نتيجة استشعار عظمة الله وجلاله وقدرته على العقاب، وتذكر الذنوب والمعاصي.
  • الرجاء: هو تعلق قلب العبد بفضل الله وكرمه ورحمته وعفوه ومغفرته، وتوقعه حصول الخير منه ونيل الثواب في الدنيا والآخرة. وهو شعور بالانشراح والأمل في القلب نتيجة استشعار سعة رحمة الله وعظيم فضله وإحسانه.

حقيقة الخوف والرجاء تدور حول علاقة العبد بربه، فالخوف يحمله على الفرار من كل ما يُغضب الله، والرجاء يحثه على الإقبال على كل ما يُرضيه. إنهما وجهان لعملة واحدة في قلب المؤمن.

 

أنواع الخوف والرجاء ومراتبهما

  • أنواع الخوف:
    • الخوف الطبيعي (الجِبِلِّي): وهو الخوف من المؤذيات كالسبع والنار، وهو غير مذموم ما لم يحمل على ترك واجب أو فعل محرم.
    • الخوف الشرعي (خوف العبادة): وهو الخوف من الله تعالى وحده، وهو من مقامات الإيمان العظيمة ويحمل على الطاعة واجتناب المعصية.
    • الخوف الشركي (خوف السر): وهو الخوف من غير الله تعالى خوفًا طبيعيًا مع اعتقاد أن له قدرة مستقلة على الضر والنفع، وهو من الشرك الأصغر وقد يصل إلى الأكبر.
  • مراتب الخوف: تتفاوت مراتب الخوف بحسب معرفة العبد بربه وبذنوبه، فأشد الخوف خوف العارفين بالله وبشدة عقابه، وأضعفه خوف العصاة الغافلين.
  • أنواع الرجاء:
    • الرجاء المقترن بالعمل: وهو رجاء المؤمن الذي يعمل الصالحات ويستغفر من السيئات، فهذا الرجاء محمود لأنه مبني على أسباب مشروعة.
    • الرجاء الكاذب (التمني): وهو رجاء العاصي المقصر الذي لا يعمل الصالحات ويُمني نفسه بمغفرة الله ورحمته دون أخذ بالأسباب، وهذا الرجاء مذموم لأنه غرور وأمن من مكر الله.
  • مراتب الرجاء: تتفاوت مراتب الرجاء بحسب إيمان العبد وثقته بربه وإحسانه الظن به، فأقوى الرجاء رجاء التائب المنيب، وأضعفه رجاء المصر على المعصية.

فضل الخوف والرجاء وأهميتهما في القرآن والسنة

لقد ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة العديد من الآيات والأحاديث التي تُبين فضل الخوف والرجاء وأهميتهما:

في القرآن الكريم:

  • مدح الخائفين: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} (الرحمن: 46).
  • الحث على الخوف: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران: 175).
  • الأمر بالرجاء: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 1 (الزمر: 53).  
  • وصف المؤمنين بالخوف والرجاء: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (السجدة: 16).

في السنة النبوية المطهرة:

  • الخوف سبب للنجاة من النار: قال صلى الله عليه وسلم: “عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله”.
  • الرجاء سبب لدخول الجنة: قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: “يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي”.
  • الحث على الجمع بين الخوف والرجاء عند الموت: قال صلى الله عليه وسلم: “لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله”.

الآثار العظيمة للخوف والرجاء في حياة المؤمن

  • الخوف:
    • الحمل على الطاعة واجتناب المعصية.
    • الاجتهاد في العبادة والإخلاص فيها.
    • البعد عن الغفلة والتوبة من الذنوب.
    • التواضع والانكسار أمام الله تعالى.
    • الزهد في الدنيا والحرص على الآخرة.
  • الرجاء:
    • الحث على الإقبال على الله والإكثار من الطاعات.
    • تجديد التوبة وعدم اليأس من رحمة الله.
    • حسن الظن بالله وانتظار فضله وكرمه.
    • الشكر على النعم والصبر على البلاء.
    • تحقيق السعادة والطمأنينة في القلب.

آفات الإفراط والتفريط في الخوف والرجاء

يجب على المؤمن أن يسير إلى الله بين الخوف والرجاء، وتجنب الإفراط والتفريط في أحدهما، فلكل منهما آفة:

آفات الإفراط في الخوف:

    • اليأس والقنوط من رحمة الله.
    • ترك العمل الصالح ظنًا بعدم القبول.
    • المرض النفسي والاكتئاب.
    • سوء الظن بالله تعالى.

آفات الإفراط في الرجاء:

    • الأمن من مكر الله والتساهل في المعاصي.
    • الغفلة عن محاسبة النفس والتوبة.
    • الغرور والأمل الكاذب.
    • سوء الأدب مع الله تعالى.

كيفية تحقيق الخوف والرجاء والجمع بينهما

لتحقيق الخوف والرجاء والجمع بينهما على الوجه الصحيح، ينبغي للمؤمن أن:

  • يتعرف على الله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله، فيستشعر عظمته وجلاله وقدرته ورحمته وكرمه.
  • يتذكر ذنوبه وتقصيره في حق الله وحقوق العباد، فيخاف من عقوبة الله وسخطه.
  • يتدبر آيات الوعيد وآيات الوعد في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
  • يُحسن الظن بالله تعالى ويتذكر سعة رحمته وعظيم فضله وإحسانه.
  • يعمل الصالحات ويجتهد في الطاعات ويستغفر من الزلات، ويرجو ثواب الله وقبوله.
  • يستمع إلى المواعظ والدروس التي تُذكر بعظمة الله وعقابه ورحمته وثوابه.
  • يصاحب الصالحين الذين يجمعون بين الخوف والرجاء في أقوالهم وأفعالهم.
  • يدعو الله تعالى أن يرزقه الخوف منه والرجاء فيه على الوجه الذي يُرضيه.

الخاتمة

إن الخوف والرجاء هما جناحان يطير بهما قلب المؤمن نحو الله تعالى، وهما ميزان الاعتدال في سلوك العبد. فالخوف يُذكره بعظمة الله وعقابه، والرجاء يُذكره برحمته وثوابه. والجمع بينهما على وجه الاعتدال هو علامة كمال الإيمان وصدق التوجه إلى الله تعالى. فالإفراط في أحدهما أو التفريط فيه يؤدي إلى آفات عظيمة. لذا، يجب على كل مسلم أن يسعى لتحقيق هذين المقامين العظيمين في قلبه والعمل بمقتضاهما في حياته، سائلاً الله تعالى أن يرزقه الخوف منه والرجاء فيه على الوجه الذي يُرضيه، وأن يجعله من عباده الذين يسيرون إليه بين الخوف والرجاء، حتى ينال رضاه وجنته. إن الله سميع مجيب الدعاء.

روابط تحميل البحث

تحميل البحث

تحميل البحث