حمزة بن عبد المطلب
أسد الله وأسد رسوله .. الفارس الذي هزّ قلوب الكفار بإيمانه وسيفه

المقدمة
عبر التاريخ الإسلامي، تبرز نماذج من الرجال الذين لم تكن حياتهم مجرد سلسلة من الأحداث، بل كانت صفحات من البطولة والصدق والتضحية الخالصة لله، خُلِّدت أسماؤهم في ذاكرة الأجيال، وصارت سيرتهم مشاعل تهدي الباحثين عن المعنى، والعزة، والإيمان. ومن هؤلاء، يبرز اسم الصحابي الجليل حمزة بن عبد المطلب، الرجل الذي جمع بين النسب الشريف والشجاعة الفريدة، بين صلة الدم برسول الله ﷺ، وصلة الروح بالإيمان، حتى استحق بجدارة لقب “أسد الله وأسد رسوله“.
كان حمزة رضي الله عنه من السابقين إلى الإسلام، وكان من أقوى من وقفوا مع النبي ﷺ في بداية دعوته، حيث كانت المواجهة بين التوحيد والشرك في أشد مراحلها. لم يتردد لحظة في إعلان إسلامه، ولم يكن إسلامه خافتًا مترددًا، بل صاخبًا قويًا، يهز أركان قريش، ويقوّي عزائم المسلمين.
في هذا البحث، نسرد سيرة هذا البطل الفريد، بدءًا من نسبه ونشأته، مرورًا بإسلامه وبطولاته، وانتهاءً باستشهاده المؤلم في غزوة أحد، ثم نقف عند أبرز الدروس والعبر المستخلصة من حياته، لنرى كيف يكون الإنسان سيفًا في يد العقيدة، ومثالًا حيًّا للفداء الحقيقي.
نسبه ونشأته
هو حمزة بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، ابن عمّ النبي ﷺ، وأحد أقرب الناس إليه نسبًا ومكانة، وأخوه من الرضاعة، إذ أرضعتهما ثويبة مولاة أبي لهب. وُلِد قبل النبي ﷺ بعامين أو أربعة على أقوال، ونشأ في بيت بني هاشم، البيت الذي حمل لواء السيادة في مكة، وكان من أشرف بيوت العرب نسبًا ومكانة.
وقد عُرف حمزة رضي الله عنه منذ شبابه بالقوة الجسدية، والفروسية، والكرم، والذكاء، وكان مولعًا بالصيد، يجوب الصحراء وحده بثقة وجرأة، لا يُنازعه فيها أحد. وكان محبوبًا بين قومه، ذا مكانة مهيبة، لا يتجرأ أحد على الإساءة إليه، لما يُعرف عنه من قوة في الحق وحدّة في الموقف.
ورغم أنه نشأ في بيئة جاهلية، فإن فطرته السليمة، وخلقه العالي، جعله من الذين نفروا من مظاهر الانحراف والشرك قبل الإسلام، وكان دائم الميل إلى قيم المروءة والشرف، فشارك في حلف الفضول، وهو الحلف الذي اتفق فيه قوم من قريش على نصرة المظلوم، والدفاع عن الحقوق، وهو ما يدل على استعداده المبكر للوقوف مع العدل.
إسلامه القوي وتحوله المفصلي
جاء إسلام حمزة رضي الله عنه في لحظة حاسمة، مثلت نقطة تحول في مسار الدعوة الإسلامية، وكان الحدث نتيجة موقف عفوي تحول إلى قرار مصيري.
روى ابن إسحاق وابن هشام أن النبي ﷺ كان جالسًا عند الكعبة، حين جاءه أبو جهل فآذاه وسَبَّه وشتمه علنًا، ولم يكن أحد من المسلمين حاضرًا ليرد عنه. رآه عبد من موالي عبد الله بن جدعان، وأخبر حمزة، الذي كان عائدًا من رحلة صيد. فغلى الدم في عروقه، ومضى فورًا إلى الكعبة، وفي يده قوسه، حتى بلغ أبا جهل، فضربه ضربة أسالت دماءه، وقال له:
“أتشتم محمدًا وأنا على دينه؟ أقول ما يقول، فإن كان لك ذلك، فاردده عليّ إن استطعت.”
ثم اتجه إلى النبي ﷺ وأعلن إسلامه. وكان هذا الموقف بمثابة زلزال في قريش، إذ لم يكن أحد يتجرأ على حمزة، فجاء إسلامه بمقام قبيلة بأكملها، وكان له أثر بالغ في تقوية شوكة المسلمين، وردع الكفار.
لقد كان إسلامه في البداية ردًا على الظلم، لكن قلبه الصادق جعله يتدبر الأمر، فشرح الله صدره للحق، فثبّت إيمانه، وكان من أشد المدافعين عن الدعوة، لا يخشى لومة لائم، ولا يتردد في إعلان الحق في وجه الطغاة.
مواقفه في الدعوة وبطولاته المبكرة
منذ دخوله الإسلام، التزم حمزة بكل كيانه، فشارك في الدعوة، وكان من أوائل من جهروا بالإسلام في مكة، وكان له دور واضح في حماية النبي ﷺ والدفاع عنه في المواقف الصعبة.
وقد عُرف عنه صلابته في وجه قريش، لا يُجامل ولا يُداور، حتى أن قريش بدأت تُراجع حساباتها بعد أن علمت أن محمدًا ﷺ صار له عمٌّ قويّ يناصره.
شارك في بيعة العقبة، وكان له دور في تنظيم صفوف المسلمين، وكان من أصحاب الرأي والمشورة.
غزوة بدر .. المجد القتالي لأسد الله
في غزوة بدر الكبرى، وهي أول معركة فاصلة بين المسلمين والمشركين، ظهر حمزة رضي الله عنه في صورة الفارس الباسل، القائد المقدام، الذي يضرب بلا هوادة، ويثبت بلا تراجع.
كان من أوائل المقاتلين في المعركة، وشارك في المبارزات الأولى، فقتل عتبة بن ربيعة أحد قادة قريش، ثم انغمس في القتال، يقاتل كأنما هو جيش وحده.
قال ابن هشام في سيرته:
“كان حمزة يُقاتل قتال الأسد الهصور، لا يثبت له أحد، ولا يمر بفارس إلا طرحه أرضًا، فكان رعبًا للمشركين.”
وقد أثنى عليه النبي ﷺ كثيرًا بعد المعركة، وكان أحد أسباب النصر الكبير الذي تحقق فيها، إذ قتل حمزة رضي الله عنه عددًا كبيرًا من أبطال قريش، وبثّ الرعب في قلوبهم.
يوم أحد واستشهاده المؤلم
في غزوة أحد، واصل حمزة رضي الله عنه جهاده وبسالته، وخرج وهو يردد:
“أنا أسد الله وأسد رسوله!”
قاتل ببسالة، وصرع أكثر من ثلاثين من المشركين، وكان يتنقل بين الصفوف كالسهم، يضرب في كل اتجاه، حتى استُشهد في مشهد مؤلم.
فقد كانت هند بنت عتبة قد نذرت إن انتصرت قريش أن تنتقم من حمزة الذي قتل أباها في بدر، فدفعت عبدًا حبشيًا يُدعى وحشي بن حرب لقتله، ووعدته بالحرية إن أتمّ المهمة.
وبالفعل، ترصّد وحشي حمزة من بعيد، وفي لحظة انشغال، رماه بالرمح من الخلف، فوقع شهيدًا.
لكن المأساة لم تقف عند ذلك، فقد جاءت هند، ومثّلت بجثته، وشقّت بطنه، وأخرجت كبده، وحاولت أن تمضغها من شدة حقدها، ثم بَصَقتها لما لم تستسغها.
حين رأى النبي ﷺ جسد عمه بتلك الصورة البشعة، بكى بحرقة، وقال: “لن أصاب بمثلك أبدًا، ما وقفت موقفًا أغيظ إليّ من هذا.” ثم صلّى عليه، وقال :”رحمك الله أيها العم، كنت ما علمت فعولًا للخيرات، وصولًا للأرحام، ولولا أن تحزن صفية لتركته حتى تأكله السباع، فيحشرك الله من بطونها.” رواه الحاكم وصححه
منزلته عند الله ورسوله
نال حمزة مكانة عظيمة عند الله، وأعلى النبي ﷺ من شأنه كثيرًا، فقد قال: “سيد الشهداء حمزة .” رواه الحاكم وصححه
وكان قبره في أرض المعركة، في أحد، حيث دُفن مع الشهداء، ومرت الأجيال تزوره وتذكر بطولاته، حتى صار رمزًا للفداء الخالص، والإيمان القوي، والبطولة النادرة.
كما أن الصحابة كانوا يذكرونه كثيرًا، ويحكون عن شجاعته، وتضحياته، حتى قال عنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “حمزة كان قامةً وحده.”
دروس وعبر من حياة حمزة
- الغيرة للحق تقود إلى الهداية: لم يسلم حمزة نتيجة دعوة مباشرة، بل نتيجة موقف أخلاقي دافع فيه عن النبي ﷺ، فهداه الله، وهذه رسالة بأن الغيرة على الحق باب من أبواب النور.
- البطولة لا تُصنع فقط بالسيف بل بالإيمان: حمزة لم يكن فارسًا جسورًا فقط، بل مؤمنًا قويًا، نذر حياته لله، وبذل أغلى ما يملك لنصرة الدين.
- الثبات عند الشدائد عنوان الإخلاص: لم يتراجع حمزة في أصعب اللحظات، لا في بدر، ولا في أحد، بل ظل مقبلًا غير مدبر حتى نال الشهادة.
- القوة لا تعني الغرور بل التواضع لله: رغم مكانته وشجاعته، لم يتكبر حمزة على أحد، وكان محبًا للنبي ﷺ، منصاعًا لأمره.
الخاتمة
سيرة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، ليست مجرد صفحات من التاريخ، بل هي سيرة رجل اختار أن يكون لله، فصار خالدًا عنده. لم تمنعه مكانته الاجتماعية، ولا قوته البدنية، من أن يُسلم خالصًا، ويجعل من نفسه جدارًا أمام قوى الباطل، وسيفًا مسلطًا على أعداء الإسلام.
مات حمزة، لكنه لم يمت، فقد بَقيت روحه في قلوب المجاهدين، وصورته حاضرة في عقول المؤمنين، وعِبرته تتجدد في كل زمن يحتاج فيه الناس إلى مثال للبطولة الصادقة، والإيمان الحر، والشهادة الفاخرة.
السلام على أسد الله وأسد رسوله، السلام على سيد الشهداء، السلام على حمزة بن عبد المطلب، في الدنيا والآخرة.