القياس ( شروطه وأشكاله )

فن الاستدلال المنطقي

مقدمة

يُعد القياس أحد أركان التفكير المنطقي وأداة أساسية في بناء الحجج والاستدلالات، وهو قلب المنطق الأرسطي الذي سيطر على الفكر البشري لقرون طويلة. ببساطة، القياس هو نوع من الاستدلال الاستنباطي ننتقل فيه من مقدمتين (أو قضيتين) مسلمتين إلى نتيجة ضرورية تلزم عنهما بالضرورة. تخيل أن لديك معلومتين، ومن خلال ربطهما بطريقة معينة، تستطيع أن تصل إلى حقيقة ثالثة لا يمكن الشك فيها إذا كانت المعلومتان الأصليتان صحيحتين. هو أشبه بالمعادلة المنطقية التي تُخرج نتيجة حتمية إذا ما كانت مدخلاتها صحيحة.

لا يقتصر استخدام القياس على الفلسفة والمنطق فقط، بل يمتد إلى مجالات مثل القانون، والرياضيات (في بعض تطبيقاتها الاستدلالية)، وحتى في كيفية تفكيرنا اليومي واتخاذ قراراتنا، وإن كان ذلك بطريقة لا واعية في كثير من الأحيان. القدرة على بناء قياس صحيح تُمكننا من التمييز بين الحجج السليمة والفاسدة، وتُعزز من قدرتنا على التفكير النقدي. سيتناول هذا البحث مفهوم القياس، وشروطه الأساسية لضمان صحة النتيجة، وأشكاله المختلفة، بالإضافة إلى أمثلة توضيحية لكل منها.

 

مفهوم القياس وأركانه

القياس هو قول مؤلف من قضيتين (أو مقدمتين) إذا سلمتا لزم عنهما قول آخر بالضرورة. بمعنى آخر، هو عملية استدلال منطقي يتم فيها الربط بين حقيقتين للوصول إلى حقيقة ثالثة حتمية.

يتكون القياس المنطقي من ثلاثة أركان أساسية:

  • المقدمة الكبرى: وهي قضية عامة أو كلية تحتوي على الحد الأكبر والحد الأوسط.
  • المقدمة الصغرى: وهي قضية جزئية أو خاصة تحتوي على الحد الأصغر والحد الأوسط.
  • النتيجة: وهي القضية التي تلزم عن المقدمتين بالضرورة، وتحتوي على الحد الأصغر والحد الأكبر.

لنفهم الأركان بشكل أوضح:

  • الحد الأكبر: هو محمول النتيجة (أي ما يُحكم به على الموضوع في النتيجة)، ويُوجد في المقدمة الكبرى.
  • الحد الأصغر: هو موضوع النتيجة (أي ما يُحكم عليه في النتيجة)، ويُوجد في المقدمة الصغرى.
  • الحد الأوسط: هو الحد الذي يربط بين المقدمتين، ويُوجد في كل من المقدمة الكبرى والمقدمة الصغرى، ولكنه لا يظهر في النتيجة أبدًا. دوره هو الوساطة بين الحدين الأكبر والأصغر.

شروط القياس الصحيح

لكي يكون القياس صحيحًا ومنتجًا لنتيجة ضرورية ويقينية، يجب أن تتوفر فيه مجموعة من الشروط الأساسية. تنقسم هذه الشروط إلى شروط تتعلق بالحدود، وأخرى تتعلق بالقضايا:

شروط متعلقة بالحدود:

  1. الحدود ثلاثة فقط: يجب أن يتكون القياس من ثلاثة حدود بالضبط (أصغر، أوسط، أكبر). أي زيادة أو نقصان في عدد الحدود يُفسد القياس.
  2. تكرار الحد الأوسط مرتين: يجب أن يظهر الحد الأوسط في كلتا المقدمتين. دوره هو الربط، وبدونه لا يمكن إقامة العلاقة بين الحدين الأصغر والأكبر.
  3. استغراق الحد الأوسط مرة واحدة على الأقل: “الاستغراق” يعني أن القضية تشمل كل أفراد الحد. يجب أن يكون الحد الأوسط مستغرقًا (أي يشمل كل أفراده) في إحدى المقدمتين على الأقل، وإلا فلن يكون هناك رابط كافٍ لضمان صحة النتيجة. على سبيل المثال، إذا قلنا “بعض الطلاب مجتهدون” ثم “بعض المجتهدون ناجحون”، لا يمكننا استنتاج علاقة ضرورية لأن كلمة “مجتهدون” لم تشمل كل أفرادها في أي من المقدمتين.
  4. استغراق أي حد في النتيجة إذا كان مستغرقًا في المقدمة: إذا كان الحد الأصغر أو الحد الأكبر مستغرقًا في النتيجة، فيجب أن يكون مستغرقًا أيضًا في المقدمة التي ورد فيها. لا يمكن أن تكون النتيجة أعم من المقدمات.

شروط متعلقة بالقضايا (المقدمات والنتيجة):

  1. لا إنتاج من مقدمتين سالبتين: إذا كانت كلتا المقدمتين سالبتين (لا يوجد كذا، ليس كذا)، فلا يمكن استخلاص نتيجة ضرورية. السالب ينفي العلاقة ولا يُثبت شيئًا لربط الحدود.
  2. لا إنتاج من مقدمتين جزئيتين: إذا كانت كلتا المقدمتين جزئيتين (بعض كذا، ليس كل كذا)، فلا يمكن استخلاص نتيجة ضرورية. الجزئية لا تُعطي معلومات كافية لتعميم العلاقة.
  3. إذا كانت إحدى المقدمتين سالبة، فالنتيجة يجب أن تكون سالبة: لأن المقدمة السالبة تنفي علاقة، فإن النتيجة يجب أن تعكس هذا النفي.
  4. إذا كانت إحدى المقدمتين جزئية، فالنتيجة يجب أن تكون جزئية: لأن المقدمة الجزئية تُعطي معلومات عن بعض الأفراد فقط، فلا يمكن للنتيجة أن تكون عامة وتشمل الكل.
  5. لابد من وجود مقدمة موجبة على الأقل: لا يمكن أن نُنتج نتيجة من مقدمتين سالبتين، لذا يجب أن تكون إحدى المقدمتين على الأقل موجبة لإثبات علاقة ما.
  6. لابد من وجود مقدمة كلية على الأقل: لا يمكن أن نُنتج نتيجة من مقدمتين جزئيتين، لذا يجب أن تكون إحدى المقدمتين على الأقل كلية لتعميم العلاقة.

إذا اختل شرط واحد من هذه الشروط، فإن القياس يُعتبر فاسدًا من الناحية المنطقية، حتى لو بدت النتيجة صحيحة بالصدفة. فالهدف هو الصحة الضرورية الناتجة عن البناء المنطقي السليم.

 

أشكال القياس الأربعة

تُصنف أشكال القياس بناءً على موقع الحد الأوسط (المشترك بين المقدمتين) في كل من المقدمة الكبرى والمقدمة الصغرى. هناك أربعة أشكال رئيسية للقياس، ولكل شكل قواعده الخاصة التي تحدد متى يكون منتجًا (أي يُخرج نتيجة صحيحة):

الشكل الأول:

  • الحد الأوسط: يكون موضوعًا في المقدمة الكبرى، ومحمولًا في المقدمة الصغرى.
  • التركيب:كل (أو لا شيء) ب هو ج/كل (أو بعض) أ هو ب/ إذن كل (أو بعض) أ هو ج.
  • شروطه: المقدمة الكبرى يجب أن تكون كلية (كلية موجبة أو كلية سالبة). المقدمة الصغرى يجب أن تكون موجبة (كلية موجبة أو جزئية موجبة).
  • مثال: كل الطلاب مجتهدون. (الحد الأوسط “الطلاب” موضوع). علي طالب. (الحد الأوسط “طالب” محمول). إذن، علي مجتهد.
  • ملاحظة: يُعد هذا الشكل هو الأقوى والأكثر بداهة في الاستدلال، وغالبًا ما يُعتبر الشكل “الكامل” للقياس.

الشكل الثاني:

  • الحد الأوسط: يكون محمولًا في كلتا المقدمتين (الكبرى والصغرى).
  • التركيب: كل (أو لا شيء) ج هو ب / كل (أو لا شيء) أ هو ب / إذن لا شيء (أو بعض ليس) أ هو ج.
  • شروطه: يجب أن تكون إحدى المقدمتين سالبة. المقدمة الكبرى يجب أن تكون كلية (كلية موجبة أو كلية سالبة).
  • مثال: لا يوجد معدن كائن حي. (الحد الأوسط “معدن” محمول). كل الحديد معدن. (الحد الأوسط “معدن” محمول). إذن، لا يوجد حديد كائن حي.
  • ملاحظة: يُستخدم هذا الشكل غالبًا في نفي العلاقات أو إظهار الاختلافات.

الشكل الثالث:

  • الحد الأوسط: يكون موضوعًا في كلتا المقدمتين (الكبرى والصغرى).
  • التركيب: كل (أو لا شيء) ب هو ج / كل (أو بعض) ب هو أ / إذن بعض أ هو ج (أو بعض أ ليس ج).
  • شروطه: المقدمة الصغرى يجب أن تكون موجبة. النتيجة يجب أن تكون جزئية.
  • مثال: كل العلماء أذكياء. (الحد الأوسط “العلماء” موضوع). بعض العلماء فقراء. (الحد الأوسط “العلماء” موضوع). إذن، بعض الفقراء أذكياء.
  • ملاحظة: هذا الشكل يُخرج دائمًا نتيجة جزئية، لأنه يبدأ بتعميمات عن بعض أفراد الحد الأوسط.

الشكل الرابع:

  • الحد الأوسط: يكون محمولًا في المقدمة الكبرى، وموضوعًا في المقدمة الصغرى.
  • التركيب: كل (أو لا شيء) ج هو ب / كل (أو لا شيء) ب هو أ / إذن بعض أ هو ج (أو بعض أ ليس ج).
  • شروطه: هذا الشكل له شروط أكثر تعقيدًا وأقل بديهية، وغالبًا ما يُعتبر الأقل استخدامًا في الاستدلال الطبيعي. من شروطه:
    • إذا كانت المقدمة الكبرى موجبة، فيجب أن تكون المقدمة الصغرى كلية.
    • إذا كانت إحدى المقدمتين سالبة، فيجب أن تكون المقدمة الكبرى كلية.
    • إذا كانت المقدمة الصغرى سالبة، فيجب أن تكون النتيجة جزئية.
  • مثال: كل القطط حيوانات. (الحد الأوسط “حيوانات” محمول). كل الحيوانات تحتاج إلى طعام. (الحد الأوسط “حيوانات” موضوع). إذن، بعض ما يحتاج إلى طعام هو قطة.
  • ملاحظة: هذا الشكل أقل طبيعية في التفكير وقد يُفضل تحويله إلى أحد الأشكال الأخرى لتسهيل الفهم.

فهم هذه الأشكال وشروطها يُمكننا من بناء حجج منطقية سليمة وتقييم صحة الاستدلالات التي تُقدم لنا.

 

خاتمة

يُعد القياس أحد أبرز الإنجازات في تاريخ المنطق والفكر البشري، فهو يُمثل نموذجًا أصيلًا للاستدلال الاستنباطي الذي ننتقل فيه من مقدمات معروفة إلى نتيجة ضرورية وحتمية. إن فهم أركانه الثلاثة (الحدود الثلاثة) وشروطه الدقيقة (سواء المتعلقة بالحدود أو القضايا) أمر جوهري لضمان صحة الاستدلال وتجنب الوقوع في الأخطاء المنطقية.

تُظهر أشكاله الأربعة المختلفة كيف يمكن للحد الأوسط أن يُربط بين المقدمتين بطرق متنوعة، وكل شكل له قوته واستخداماته وشروطه الخاصة. على الرغم من أن بعض هذه الأشكال قد يبدو معقدًا أو غير بديهي في الاستخدام اليومي، إلا أن دراستها تُعزز من قدرتنا على التفكير النقدي، وبناء الحجج المنطقية السليمة، وتقييم صحة الأفكار التي نواجهها. يبقى القياس، بتنوع أشكاله ودقة شروطه، ركيزة أساسية للعقلانية وأداة لا غنى عنها في مسعانا نحو المعرفة اليقينية.

روابط تحميل البحث

تحميل البحث

تحميل البحث