التوسط والاعتدال

مقدمة
يُعد التوسط والاعتدال من أبرز سمات الشريعة الإسلامية وخصائصها الجوهرية، فهما يمثلان المنهج القويم والسبيل الأمثل في جميع جوانب الدين والدنيا. فالتوسط هو سلوك الوسطية والبعد عن الغلو والتطرف والإفراط والتفريط، والاعتدال هو التوازن والإنصاف وإعطاء كل ذي حق حقه دون ميل أو جور. إنهما صفتان حميدتان تدلان على رجاحة العقل وحسن التدبير وقوة الإيمان، وهما أساس الاستقامة في الدين وقوام الحياة السعيدة المستقرة. إن فهم فضل التوسط والاعتدال وأهميتهما وأنواعهما وآثارهما في الدنيا والآخرة، والحرص على التمسك بهما في جميع شؤون الحياة، يُعد من علامات كمال الإسلام وحسن الاتباع، وسببًا لنيل محبة الله تعالى ورضوانه والفوز بالخير والبركة في الدنيا والآخرة.
مفهوم التوسط والاعتدال وأهميتهما وفضلهما ومكانتهما في الإسلام
مفهوم التوسط لغةً: سلوك الوسط والبعد عن الطرفين.
مفهوم التوسط اصطلاحًا: هو سلوك المنهج الوسط بين الإفراط والتفريط والغلو والتقصير في جميع الأمور الدينية والدنيوية.
مفهوم الاعتدال لغةً: الاستقامة والتوازن والإنصاف.
مفهوم الاعتدال اصطلاحًا: هو إعطاء كل ذي حق حقه دون زيادة أو نقصان، والتوازن بين المطالب المختلفة وعدم الميل إلى جانب على حساب آخر.
أهميتهما وفضلهما ومكانتهما في الإسلام:
- من سمات الأمة الإسلامية: قال تعالى: “وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا” (البقرة: 143). فالأمة الإسلامية أمة وسط معتدلة في عقائدها وعباداتها وأخلاقها ومعاملاتها.
- أمر من الله تعالى: قال تعالى: “وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ” (القصص: 77). هذه الآية تدعو إلى التوازن بين الاهتمام بالآخرة وعدم إهمال الدنيا.
- سبيل الاستقامة والسداد: التوسط والاعتدال يحفظان الإنسان من الانحراف والضلال ويوفقانه للصواب.
- قوام الحياة السعيدة المستقرة: التوازن في المطالب والرغبات يحقق السعادة والاستقرار للفرد والمجتمع.
- سبب لنيل محبة الله ورضوانه: الله يحب المعتدلين المنصفين.
- وسيلة للدعوة والتأثير: المنهج الوسط المعتدل أبلغ في التأثير على الناس وجذبهم إلى الحق.
- أجر عظيم في الآخرة: وعد الله المعتدلين بالجزاء الحسن.
الأدلة الشرعية من القرآن والسنة التي تأمر بالتوسط والاعتدال
وردت نصوص كثيرة في القرآن والسنة تأمر بالتوسط والاعتدال وتحث عليهما في مختلف جوانب الحياة:
من القرآن الكريم: بالإضافة إلى الآيات السابقة، قال تعالى في الإنفاق: “وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا” (الإسراء: 29). هذه الآية تدعو إلى التوسط في الإنفاق بين البخل والإسراف. وقال تعالى في الصلاة: “وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا” (الإسراء: 110). هذه الآية تدعو إلى التوسط في الجهر والإسرار بالقراءة في الصلاة.
من السنة النبوية: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “خير الأمور أوسطها” (رواه البيهقي في شعب الإيمان). وقال صلى الله عليه وسلم في النهي عن التشدد في الدين: “اكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل” (متفق عليه). وهذا يدعو إلى التوسط في العبادة وعدم الإفراط الذي يؤدي إلى الملل والترك.
أنواع التوسط والاعتدال ومجالات تطبيقهما المختلفة
يشمل التوسط والاعتدال في الإسلام أنواعًا ومجالات تطبيق واسعة:
- التوسط في الاعتقاد: وهو سلوك المنهج الوسط بين الغلو في الدين والجفاء عنه، وبين الإفراط في تعظيم الأنبياء والصالحين والجفاء بحقهم.
- التوسط في العبادة: وهو أداء العبادات بإخلاص وإتقان مع عدم الإفراط الذي يؤدي إلى الملل أو التفريط الذي يؤدي إلى الإهمال.
- التوسط في الأخلاق: وهو التحلي بمكارم الأخلاق والبعد عن الرذائل، والتوازن بين الخوف والرجاء، وبين الزهد والتمتع الطيبات.
- التوسط في الإنفاق: وهو الاعتدال بين البخل والإسراف والجود بالقدر المناسب.
- التوسط في التعامل مع الناس: وهو العدل والإنصاف واللين مع الحزم والبعد عن الغلو في المدح أو الذم.
- التوسط في استخدام الدنيا: وهو الانتفاع بمباحات الدنيا مع عدم الانغماس فيها ونسيان الآخرة.
- التوسط في القوة واللين: وهو استخدام القوة عند الحاجة إليها واللين في موضعه.
- التوسط في السر والعلن: وهو عدم المبالغة في إظهار العبادات أو إخفائها إلا ما ورد به النص.
آثار التوسط والاعتدال المباركة في الدنيا والآخرة
للتوسط والاعتدال آثار عظيمة ومباركة في الدنيا والآخرة:
في الدنيا:
- الاستقامة على الحق والبعد عن الضلال.
- تحقيق السعادة والاستقرار النفسي والاجتماعي.
- نجاح العلاقات الاجتماعية وكسب محبة الناس.
- البركة في الرزق والعمر والعمل.
- قوة المجتمع وازدهاره.
- الأمن والسلام والوئام.
في الآخرة:
- نيل محبة الله ورضوانه.
- دخول الجنة والنجاة من النار.
- الأجر العظيم والثواب الجزيل.
- الشفاعة يوم القيامة للأمة الوسط.
- المنزلة الرفيعة في الآخرة.
التحذير من الغلو والتطرف والإفراط والتفريط
يحذر الإسلام بشدة من الغلو والتطرف والإفراط والتفريط لما لها من آثار سلبية مدمرة:
- الغلو والتطرف: يؤديان إلى الانحراف عن الحق والتشدد المذموم والتسبب في الفتن والاضطرابات.
- الإفراط: يؤدي إلى تجاوز الحدود الشرعية والوقوع في المحرمات.
- التفريط: يؤدي إلى إهمال الواجبات والتقصير في الطاعات.
الخاتمة
إن التوسط والاعتدال هما جوهر الشريعة الإسلامية ومنهجها القويم، وهما سبيل الاستقامة والسداد وقوام الحياة السعيدة المستقرة. وقد أمر الله بهما وحث عليهما في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم في جميع جوانب الدين والدنيا. فينبغي على كل مسلم أن يسعى للتمسك بهذا المنهج العظيم في عقائده وعباداته وأخلاقه ومعاملاته، وأن يحذر من الغلو والتطرف والإفراط والتفريط، رجاء نيل محبة الله ورضوانه والفوز بالخير والبركة في الدنيا والآخرة. ونسأل الله تعالى أن يوفقنا للتمسك بالوسطية والاعتدال وأن يجعلنا من أهله وأن يهدينا سواء السبيل.