أسلوب القسم في اللغة العربية
تأكيد المعنى وبلاغة التعبير

مقدمة
تُعرف اللغة العربية بثرائها اللغوي وبلاغتها الفريدة التي تُمكّن المتحدث والكاتب من التعبير عن المعاني بدقة وجمال. ومن بين الأدوات البلاغية والأساليب النحوية التي تُضفي على النص قوة وتوكيدًا، يبرز أسلوب القسم كأحد الأساليب المحورية في تعزيز المعنى وترسيخ المعلومة في ذهن المتلقي. لا يقتصر دور القسم على مجرد تأكيد الخبر فحسب، بل يتجاوز ذلك ليُصبح جزءًا لا يتجزأ من النسيج اللغوي الذي يُساهم في بناء الحجج، إزالة الشكوك، والتعبير عن الإيمان واليقين. تُظهر النصوص العربية الفصيحة، من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف إلى الشعر والنثر، استخدامًا واسعًا ومتنوعًا لأسلوب القسم، مما يُؤكد على أهميته البلاغية والنحوية. يهدف هذا البحث إلى استكشاف أسلوب القسم في اللغة العربية بعمق، مُتناولًا تعريفه، أركانه الأساسية، أنواعه المختلفة من حيث وضوح أداة القسم وجوابه، والدلالات البلاغية التي يُمكن أن يُضفيها على المعنى. كما سيتناول البحث بعض الأحكام النحوية المتعلقة بالقسم، لا سيما ما يتعلق بتوكيد الفعل المضارع والماضي، مُقدمًا أمثلة توضيحية تُبرز مرونة هذا الأسلوب ودوره الحيوي في إثراء التعبير العربي.
مفهوم أسلوب القسم
أسلوب القسم في اللغة العربية هو طريقة لغوية تُستخدم لتوكيد أمر أو خبر، وذلك بذكر شيء عظيم أو مُقدر يُحلف به، ويُطلق عليه “المُقسم به”. يُمكن تعريف القسم بأنه “ربط الخبر بحدث أو ذات أو صفة عظيمة لِإكسابه قوة في نفس المخاطب وإزالة الشك والتردد”. الغرض الأساسي من القسم هو تحقيق الثقة واليقين في المعلومة المُقدمة، سواء كانت معلومة إخبارية، أو وعدًا، أو تهديدًا، أو نصيحة.
أركان أسلوب القسم الأساسية
يتكون أسلوب القسم من ثلاثة أركان أساسية لا يُمكن أن يكتمل المعنى المقصود بدونهما:
أداة القسم: وهي الحرف أو الفعل الذي يُستخدم للدلالة على القسم. تُعد أدوات القسم بمثابة البوابة التي تُدخل المتلقي إلى عالم التوكيد في الجملة. أشهر أدوات القسم الحروف هي:
- الواو (و): تُستخدم غالبًا لِلمُقسم به الظاهر (اسم ظاهر)، وتُفيد التعظيم والعظمة. لا تُستخدم إلا مع الأسماء الظاهرة.
- مثال: “واللهِ لأقومَنَّ بواجبي.” (الله: اسم ظاهر)
- مثال: “والفجرِ وليالٍ عشر.” (الفجر: اسم ظاهر)
- الباء (بِـ): تُستخدم لِلمُقسم به الظاهر والمُضمر (الضمير)، وتُفيد معنى الإلصاق أو الاستعانة بالمُقسم به.
- مثال: “باللهِ لأنجحنَّ.”
- مثال: “بِك لأحلفنَّ على ذلك.”
- التاء (تَـ): تُستخدم حصرًا لِلفظ الجلالة “الله”، وتُفيد التعظيم الشديد والقرب من المُقسم به، أو تُستخدم في مقام التهديد أو التحدي.
- مثال: “تاللهِ لأكيدنَّ أصنامكم.” (القرآن الكريم)
بالإضافة إلى الحروف، قد تكون أداة القسم فعلًا، مثل:
- أَحْلِفُ، أُقْسِمُ، أَشْهَدُ: هذه الأفعال تُستخدم لبيان القسم الصريح.
- مثال: “أُقسمُ باللهِ لأصدقنَّ القول.”
المُقسم به: هو ما يُحلف به أو يُقسم به. يجب أن يكون المُقسم به ذا قيمة عظيمة، أو ذا شأن كبير، أو مُقدسًا في عرف المتكلم أو السامع أو المجتمع الذي تُوجه إليه الرسالة، حتى يُعطي القسم قوته وتأثيره. المُقسم به قد يكون:
- ذاتًا مقدسة: مثل الله سبحانه وتعالى، أو أسماء الله الحسنى، أو صفاته العليا.
- زمنًا عظيمًا: مثل الفجر، الليل، النهار، العصر.
- مكانًا مقدسًا: مثل مكة، المدينة، البيت الحرام.
- شيئًا له قيمة معنوية أو مادية: مثل الشرف، الأمانة، العمر.
جواب القسم: وهو الجملة أو الخبر المُراد تأكيده بالقسم. يجب أن يكون جواب القسم مُناسبًا للمُقسم به ومُؤكدًا له. قد يكون جواب القسم جملة اسمية أو جملة فعلية، وله أحكام خاصة به في التوكيد، خاصة مع الفعل المضارع والماضي، كما سنرى.
أنواع أسلوب القسم (من حيث التصريح والحذف)
يُمكن تقسيم أسلوب القسم إلى أنواع رئيسية بناءً على وضوح أركانه في الجملة:
القسم الصريح (المُصرح به): وهو القسم الذي تُذكر فيه جميع أركان القسم (أداة القسم، المُقسم به، وجواب القسم) بشكل واضح في الجملة. يُعطي هذا النوع من القسم أقوى درجات التوكيد وأكثرها وضوحًا.
- مثال: “والعصرِ إن الإنسان لفي خسر.” (أداة: الواو، المُقسم به: العصر، جواب: إن الإنسان لفي خسر).
- مثال: “تاللهِ لأفعلنَّ الخير.” (أداة: التاء، المُقسم به: الله، جواب: لأفعلن الخير).
- مثال: “أُقسمُ باللهِ إن الحق لمنتصر.” (أداة: أقسم، المُقسم به: الله، جواب: إن الحق لمنتصر).
القسم غير الصريح (المُقدر/المحذوف): وهو القسم الذي يُحذف فيه بعض أركانه، وغالبًا ما يكون ذلك أداة القسم والمُقسم به، ويُفهم من سياق الكلام أو من وجود علامات تُشير إليه في جواب القسم. يُستخدم هذا النوع في اللغة العربية بكثرة، ويدل على بلاغة عالية وإيجاز.
- حذف أداة القسم والمُقسم به وبقاء جواب القسم مُؤكدًا: غالبًا ما يُقدر القسم إذا جاءت جملة مُؤكدة باللام ونون التوكيد (في المضارع)، أو بـ”إن” و”اللام”، أو “قد” و”اللام” (في الماضي).
- مثال: “لأدرسَنَّ باجتهاد.” (يُقدر هنا: واللهِ لأدرسن).
- مثال: “لقد جاء الحق.” (يُقدر: واللهِ لقد جاء الحق).
- مثال: “إن الحياة لجميلة.” (يُقدر: واللهِ إن الحياة لجميلة).
- القسم بأسلوب الاستفهام التوبيخي أو الإنكاري: يُمكن أن يُفهم القسم من سياق بعض الجمل الاستفهامية التي تحمل معنى التوبيخ أو الإنكار.
- مثال: “أتَكْسَلُ وقد أقسمتَ على النجاح؟” (يُفهم هنا قسم ضمني).
دلالات أسلوب القسم البلاغية
لا يقتصر دور أسلوب القسم على التوكيد النحوي فحسب، بل يحمل في طياته دلالات بلاغية عميقة تُثري النص وتُؤثر في المتلقي:
- التوكيد والتقرير: وهي الدلالة الأساسية، حيث يُقوي القسم المعنى ويُثبته في نفس السامع، ويُزيل عنه كل تردد أو شك. يُستخدم لترسيخ الحقائق والمعتقدات.
- التعظيم والتهويل: عندما يكون المُقسم به شيئًا عظيمًا (مثل الله، أو الكواكب، أو الظواهر الطبيعية الكبرى)، فإن القسم يُضفي دلالة على عظمة المُقسم به، ويُستخدم لِتهويل الأمر المُراد الإخبار عنه أو تأكيده.
- التفخيم والتشريف: إذا كان المُقسم به ذاتًا أو صفةً تُشرف المتكلم، فإن القسم يُشير إلى أهمية هذه الذات أو الصفة بالنسبة للمتكلم.
- التعجب والاستغراب: في بعض السياقات، قد يُستخدم القسم للتعبير عن التعجب الشديد أو الاستغراب من أمر ما.
- التأكيد على صدق القول: يُستخدم القسم لِإظهار صدق المتكلم وأمانته فيما يقول، ويُفيد بأنه مُستعد لربط قوله بشيء مُقدس أو عظيم.
- التهديد والوعيد: قد يأتي القسم في سياق التهديد والوعيد، مما يُعطي هذه الأقوال قوة ويقينًا بأنها ستُنفذ.
- مثال: “واللهِ لأنتقمنَّ.”
- التشويق وإثارة الانتباه: في بعض الحالات، يُستخدم القسم لجذب انتباه المتلقي إلى أهمية ما سيُقال بعده، وتهيئته لاستقبال معلومة مُهمة.
الخاتمة
يُعد أسلوب القسم أحد الأعمدة الرئيسية في بناء الجملة العربية، ليس فقط كأداة نحوية للتوكيد، بل كوعاء بلاغي يُثري المعنى ويُضفي عليه أبعادًا من اليقين، والتعظيم، والتهويل. إن فهم أركان القسم، من أداة القسم إلى المُقسم به وجوابه، يُمكن الدارس من تحليل النصوص العربية بعمق أكبر وتقدير براعة اللغة. كما أن إتقان أحكام توكيد الأفعال بالقسم، وخاصة الفعل المضارع والماضي، يُعتبر ضروريًا لإتقان ناصية الصياغة العربية وتجنب الأخطاء الشائعة. فلكل حالة من حالات الوجوب والجواز والامتناع في توكيد الفعل المضارع دلالتها اللغوية والبلاغية التي تُساهم في تحقيق الغرض المُراد من القسم. إن اللغة العربية، بمرونتها وقواعدها الدقيقة، تُقدم للمُتكلم والكاتب أدوات تعبيرية لا حدود لها، وأسلوب القسم يُعد واحدًا من أروع هذه الأدوات التي تُجسد قوة الكلمة وتأثيرها في بناء المعنى وترسيخه في النفوس. الاستمرار في دراسة هذه الأساليب يُعزز من إدراكنا لجمال اللغة وقدرتها على استيعاب الفروق الدقيقة في المعنى، ويُثري فهمنا للتراث اللغوي الغني.