المدح والذم

مقدمة
تزخر اللغة العربية بأساليب متنوعة وغنية للتعبير عن المشاعر والانفعالات المختلفة، سواء كانت إيجابية كالإعجاب والاستحسان، أو سلبية كالاستياء والرفض. ومن بين هذه الأساليب البلاغية والنحوية، يبرز أسلوبا “المدح” و”الذم” كأداتين قويتين يستخدمهما المتحدث أو الكاتب للتعبير عن تقييمه الإيجابي أو السلبي لشخص أو شيء أو فعل ما. فالمدح يسعى إلى إظهار محاسن الممدوح ورفع شأنه، بينما يهدف الذم إلى إبراز مساوئ المذموم والحط من قدره. إن فهم أساليب المدح والذم، وأركانها، وصيغها المختلفة، ودلالاتها البلاغية، يسهم في إتقان اللغة العربية وفهم دقيق للتعبير عن التقدير والتحقير في مختلف السياقات التواصلية. هذا البحث يسعى إلى استكشاف مفهومي المدح والذم في اللغة العربية، وتحليل أركانهما الأساسية، واستعراض أهم صيغهما وأدواتهما النحوية، بالإضافة إلى بحث الدلالات البلاغية والوظائف التواصلية التي يؤديها هذان الأسلوبان في الخطاب العربي.
مفهوم المدح والذم وأركانهما الأساسية
لتأسيس فهم واضح لمفهومي المدح والذم، لا بد من تعريفهما وتحديد الأركان الأساسية التي يتكون منهما كل أسلوب.
تعريف المدح: المدح هو أسلوب إنشائي يُستخدم للتعبير عن الاستحسان والإعجاب بشيء أو شخص أو فعل ما، وإظهار محاسنه ورفع شأنه.
تعريف الذم: الذم هو أسلوب إنشائي يُستخدم للتعبير عن الاستياء والرفض لشيء أو شخص أو فعل ما، وإبراز مساوئه والحط من قدره.
أركان أسلوبي المدح والذم: يتكون كل من أسلوبي المدح والذم من ثلاثة أركان أساسية:
- فعل المدح أو الذم: وهو الفعل الذي يدل على المدح أو الذم. أشهر أفعال المدح هي “نِعْمَ” و”حَبَّذا”، وأشهر أفعال الذم هي “بِئْسَ” و”ساءَ” و”لا حَبَّذا”.
- الفاعل: وهو الاسم المرفوع الذي يأتي بعد فعل المدح أو الذم، ويدل على الشيء أو الشخص الذي يُمدح أو يُذم.
- المخصوص بالمدح أو الذم: وهو الاسم المؤخر المرفوع أو المنصوب الذي يدل على الشيء أو الشخص الذي وقع عليه المدح أو الذم تحديدًا.
أهم صيغ وأدوات المدح في اللغة العربية
تتعدد الصيغ والأدوات التي تستخدم للتعبير عن المدح في اللغة العربية.
– استخدام الفعل “نِعْمَ”: يُستخدم الفعل “نِعْمَ” للمدح، ويكون فعلاً ماضيًا جامدًا مبنيًا على الفتح. يحتاج إلى فاعل يكون إما:
- اسمًا معرفًا بـ “أل”: “نِعْمَ الرَّجُلُ عليٌّ.” (عليٌّ: المخصوص بالمدح، مرفوع).
- اسمًا مضافًا إلى معرفة: “نِعْمَ صاحِبُ القَوْمِ زيدٌ.” (زيدٌ: المخصوص بالمدح، مرفوع).
- ضميرًا مستترًا يفسره تمييز: “نِعْمَ خُلُقًا الصدقُ.” (الصدقُ: المخصوص بالمدح، مرفوع، “خُلُقًا”: تمييز منصوب).
- “ما” أو “مَنْ” الموصولتين: “نِعْمَ ما تَفْعَلُ الخيرُ.” (الخيرُ: المخصوص بالمدح، مرفوع). “نِعْمَ مَنْ تَصْحَبُ الأمينُ.” (الأمينُ: المخصوص بالمدح، مرفوع).
– استخدام الفعل “حَبَّذا”: يُستخدم الفعل “حَبَّذا” للمدح، وهو فعل ماضٍ جامد مبني على الفتح، و”ذا” اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع فاعل. يأتي المخصوص بالمدح بعده وجوبًا مرفوعًا. “حَبَّذا الصِّدْقُ.” (الصِّدْقُ: المخصوص بالمدح، مرفوع).
– صيغ أخرى للمدح: قد يُستخدم أحيانًا أساليب أخرى للمدح تحمل معنى الاستحسان والثناء، مثل:
- النداء التعجبي: “يا لَهُ فارِسًا!”
- الجمل الاسمية الدالة على المدح: “أنتَ البَطَلُ حقًّا.”
- استخدام بعض الصفات بصيغة المبالغة: “هو الصِّدِّيقُ.”
أهم صيغ وأدوات الذم في اللغة العربية
تتعدد الصيغ والأدوات التي تستخدم للتعبير عن الذم في اللغة العربية.
- استخدام الفعل “بِئْسَ”: يُستخدم الفعل “بِئْسَ” للذم، ويكون فعلاً ماضيًا جامدًا مبنيًا على الفتح. يحتاج إلى فاعل يكون مماثلًا لفاعل “نِعْمَ” في أنواعه. “بِئْسَ الخُلُقُ الكذبُ.” (الكذبُ: المخصوص بالذم، مرفوع). “بِئْسَ رَفِيقُ السَّوْءِ النَّمَّامُ.” (النَّمَّامُ: المخصوص بالذم، مرفوع). “بِئْسَ قَوْلًا الزورُ.” (الزورُ: المخصوص بالذم، مرفوع). “بِئْسَ ما يَفْعَلُ الشَّرُّ.” (الشَّرُّ: المخصوص بالذم، مرفوع). “بِئْسَ مَنْ تُصَادِقُ الكَذَّابُ.” (الكَذَّابُ: المخصوص بالذم، مرفوع).
- استخدام الفعل “ساءَ”: يُستخدم الفعل “ساءَ” للذم، وهو فعل ماضٍ جامد مبني على الفتح، ويأتي فاعله وتمييزه والمخصوص بالذم بنفس طريقة “بِئْسَ”. “ساءَ الْمَصِيرُ جهنمُ.” (جهنمُ: المخصوص بالذم، مرفوع). “ساءَ مَثَلًا قَوْمُ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا.” (قَوْمُ: المخصوص بالذم، مرفوع).
- استخدام التركيب “لا حَبَّذا”: يُستخدم التركيب “لا حَبَّذا” للذم، و”لا” نافية، و”حَبَّ” فعل ماضٍ جامد مبني على الفتح، و”ذا” اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع فاعل. يأتي المخصوص بالذم بعده وجوبًا مرفوعًا. “لا حَبَّذا النِّفَاقُ.” (النِّفَاقُ: المخصوص بالذم، مرفوع).
- صيغ أخرى للذم: قد يُستخدم أحيانًا أساليب أخرى للذم تحمل معنى الاستياء والتحقير، مثل:
- النداء التعجبي: “يا لَهُ جَبَانًا!”
- الجمل الاسمية الدالة على الذم: “أنتَ الشَّرُّ بِعَيْنِهِ.”
- استخدام بعض الصفات بصيغة الذم: “هو الفَاسِقُ.”
أحكام المخصوص بالمدح والذم الإعرابية
للمخصوص بالمدح والذم حكمان إعرابيان جائزان.
- الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف وجوبًا: في هذه الحالة، يُعرب المخصوص بالمدح أو الذم اسمًا مرفوعًا وعلامة رفعه الضمة الظاهرة أو ما ينوب عنها، ويكون تقدير المبتدأ المحذوف “هو” أو “هي” أو “هم” بحسب السياق. مثال: “نِعْمَ الرَّجُلُ عليٌّ.” (عليٌّ: خبر لمبتدأ محذوف تقديره “هو”، مرفوع). “بِئْسَ الصِّفَةُ الكذبُ.” (الكذبُ: خبر لمبتدأ محذوف تقديره “هي”، مرفوع). “حَبَّذا الأصدقاءُ المخلصون.” (الأصدقاءُ: خبر لمبتدأ محذوف تقديره “هم”، مرفوع).
- الرفع على أنه مبتدأ مؤخر والجملة الفعلية قبله خبر مقدم: في هذه الحالة، يُعرب المخصوص بالمدح أو الذم مبتدأ مؤخر مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة أو ما ينوب عنها، وتكون الجملة الفعلية التي تسبقه (“نِعْمَ الرَّجُلُ”، “بِئْسَ الصِّفَةُ”، “حَبَّذا”) في محل رفع خبر مقدم. مثال: “عليٌّ نِعْمَ الرَّجُلُ.” (عليٌّ: مبتدأ مؤخر مرفوع). “الكذبُ بِئْسَ الصِّفَةُ.” (الكذبُ: مبتدأ مؤخر مرفوع). “المخلصون حَبَّذا الأصدقاءُ.” (المخلصون: مبتدأ مؤخر مرفوع).
الدلالات البلاغية والوظائف التواصلية لأسلوبي المدح والذم
لا يقتصر استخدام أسلوبي المدح والذم على مجرد التعبير عن الاستحسان والاستياء، بل يحملان دلالات بلاغية ويؤديان وظائف تواصلية أعمق.
- إظهار التقدير والإجلال (في المدح): يستخدم المدح لإظهار التقدير العميق والاحترام والإجلال للممدوح.
- التأثير والإقناع (في المدح): يمكن استخدام المدح للتأثير في المخاطب وإقناعه بفضل الممدوح وجدارته.
- إثارة الإعجاب والدهشة (في المدح): قد يستخدم المدح للتعبير عن الإعجاب الشديد والدهشة من صفة أو فعل ما.
- إظهار الاحتقار والتحقير (في الذم): يستخدم الذم لإظهار الاحتقار والازدراء والتحقير للمذموم.
- التحذير والتنفير (في الذم): يمكن استخدام الذم لتحذير المخاطب وتنفيره من صفة أو فعل مذموم.
- إثارة السخط والاستياء (في الذم): قد يستخدم الذم للتعبير عن الغضب والسخط والاستياء من شخص أو فعل ما.
- التعبير عن القيم والمعايير الاجتماعية: يعكس المدح والذم القيم والمعايير التي يتبناها المتحدث أو المجتمع. فمدح صفة معينة يدل على تقديرها، وذم أخرى يدل على رفضها.
- بناء الهوية الجماعية: يمكن استخدام المدح والذم لتعزيز الشعور بالانتماء إلى جماعة معينة من خلال مدح صفات تعتبر إيجابية في تلك الجماعة وذم صفات تعتبر سلبية.
- الوظيفة الإقناعية والتأثيرية: يسعى المتحدث من خلال المدح والذم إلى التأثير في آراء المستمعين ومواقفهم تجاه الأشخاص أو الأفعال موضوع المدح أو الذم.
خاتمة
إن أسلوبي المدح والذم يمثلان أداتين فاعلتين في اللغة العربية للتعبير عن الاستحسان والاستياء والتقييم الإيجابي والسلبي للأشخاص والأفعال والأشياء. بفعليهما المميزين (“نِعْمَ” و”حَبَّذا” للمدح، و”بِئْسَ” و”ساءَ” و”لا حَبَّذا” للذم)، وأركانهما الأساسية (الفعل والفاعل والمخصوص)، وأحكامهما الإعرابية الجائزة للمخصوص، يؤدي هذان الأسلوبان وظائف تواصلية وبلاغية تتجاوز مجرد الوصف إلى التأثير والإقناع والتعبير عن القيم والمعايير الاجتماعية. إن فهم هذه الأساليب وإتقان استخدامها يثري قدرة المتحدث والكاتب على التعبير بدقة وعمق عن مشاعره وتقييماته، ويساهم في فهم أعمق للنصوص العربية وتحليلها بلاغيًا. فالمدح والذم ليسا مجرد كلمتين عابرتين، بل هما أدوات قوية تشكل جزءًا لا يتجزأ من جمالية اللغة العربية وقدرتها على التعبير عن أدق الانفعالات والتقييمات الإنسانية.