حياة النبي قبل البعثة

مقدمة
تمثل حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم قبل البعثة النبوية الشريفة فترة تأسيس وتكوين لشخصية عظيمة أحدثت تحولًا جذريًا في تاريخ البشرية. هذه المرحلة، التي امتدت لأربعين عامًا، لم تكن مجرد تسلسل للأحداث والوقائع، بل كانت فترة حافلة بالتحديات والفضائل والصفات النبيلة التي تجلت في شخصه الكريم. نشأ النبي صلى الله عليه وسلم يتيمًا، وعاش حياة بسيطة ومليئة بالعمل الجاد والأمانة والصدق، مما أكسبه احترام وتقدير مجتمعه في مكة المكرمة. كما شهدت هذه الفترة تفاعله مع البيئة الاجتماعية والثقافية والدينية السائدة في شبه الجزيرة العربية، والتي كانت تتسم بتنوع المعتقدات والتقاليد القبلية.
إن دراسة حياة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة تُعدّ ضرورية لفهم السياق الذي نشأت فيه الرسالة الإسلامية. فهي تُلقي الضوء على الظروف الاجتماعية والأخلاقية والدينية التي كانت سائدة في مكة، وتُبرز الصفات الشخصية الفريدة التي امتلكها النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يُكرمه الله بالنبوة. كما تساعد في فهم كيف تم إعداده صلى الله عليه وسلم لحمل أعباء الرسالة وتبليغها للناس.
النشأة والطفولة والشباب
- المولد والنسب: وُلد النبي محمد صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة عام 570 ميلاديًا (عام الفيل). ينتمي إلى أشرف قبائل العرب، قبيلة قريش، من بني هاشم. توفي والده عبد الله بن عبد المطلب وهو جنين في بطن أمه آمنة بنت وهب.
- الرضاعة: قضى صلى الله عليه وسلم فترة رضاعته الأولى في مكة، ثم أُرسل إلى بادية بني سعد حيث أرضعته حليمة السعدية. قضى في البادية سنوات اكتسب فيها فصاحة اللسان وقوة البنية.
- اليتيم: توفيت أمه آمنة وهو في السادسة من عمره، فكفله جده عبد المطلب. وبعد وفاة جده وهو في الثامنة من عمره، تولى رعايته عمه أبو طالب الذي كان له سندًا وحاميًا طوال حياته قبل البعثة.
- العمل والرعي: في شبابه، عمل النبي صلى الله عليه وسلم في رعي الأغنام لأهل مكة، مما علمه الصبر والتأمل والمسؤولية.
- التجارة: شارك صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب في بعض رحلاته التجارية إلى الشام، مما أكسبه خبرة في التعامل مع الآخرين ومعرفة بأحوال الأمم الأخرى.
الأخلاق والصفات الحميدة قبل النبوة
تميز النبي محمد صلى الله عليه وسلم قبل البعثة بأخلاق رفيعة وصفات حميدة أكسبته محبة واحترام قومه:
- الصدق والأمانة: كان صلى الله عليه وسلم يُعرف في مكة بـ “الصادق الأمين” لصدقه في قوله وأمانته في تعامله. كانت قريش تودع عنده نفائسها وأموالها.
- الحلم والصبر: كان صلى الله عليه وسلم حليمًا صبورًا، يتجاوز عن أخطاء الآخرين ويتحمل الأذى.
- الكرم والجود: كان صلى الله عليه وسلم كريمًا جوادًا، سخيًا بما يملك، ويساعد المحتاجين.
- العفة والطهارة: نشأ صلى الله عليه وسلم في مجتمع تسوده بعض العادات السيئة، إلا أنه كان معصومًا محفوظًا، لم يقترف فاحشة قط.
- الوفاء بالعهد: كان صلى الله عليه وسلم وفيًا بعهوده ومواثيقه، لا يخلف وعدًا قط.
- العدل والإنصاف: كان صلى الله عليه وسلم عادلاً منصفًا في تعامله مع الآخرين، لا يميل مع الهوى.
- التواضع: على الرغم من شرف نسبه ومكانته، كان صلى الله عليه وسلم متواضعًا، يجالس الفقراء ويخدم نفسه وأهله.
الزواج من خديجة بنت خويلد رضي الله عنها
- التعارف والزواج: عُرفت خديجة بنت خويلد رضي الله عنها بمالها وشرفها وعقلها. استأجرته صلى الله عليه وسلم ليتاجر لها في مالها إلى الشام، فأبدى أمانة وربحًا كبيرًا. أعجبت بها وبأخلاقه، وعرضت عليه الزواج فتزوجها وهو في الخامسة والعشرين من عمره، وكانت هي في الأربعين.
- أثر الزواج: كان زواجه صلى الله عليه وسلم من خديجة رضي الله عنها حدثًا هامًا في حياته. كانت له نعم الزوجة والسند والمعين، وآمنت به وصدقته وكانت أول من آمن بالرسالة.
المشاركة في الأحداث الاجتماعية في مكة
شارك النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحداث الهامة في مجتمع مكة قبل البعثة:
- حلف الفضول: شهد صلى الله عليه وسلم حلف الفضول، وهو حلف تعاهدت فيه قبائل مكة على نصرة المظلوم ورد الحقوق إلى أهلها. أعجب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحلف وظل يذكره بخير بعد الإسلام.
- بناء الكعبة: شارك صلى الله عليه وسلم في إعادة بناء الكعبة بعد أن تهدمت بسبب سيل. وعندما اختلفوا على وضع الحجر الأسود، اقترح صلى الله عليه وسلم حلاً حكيمًا أرضى جميع الأطراف، حيث وضع الحجر في رداء وحمل كل رئيس قبيلة طرفًا منه حتى أوصلوه إلى مكانه، ثم قام صلى الله عليه وسلم بوضعه بيده الشريفة.
التأملات الروحية والبحث عن الحق
تميزت حياة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة بنزعة روحية وتأمل في الكون والخالق:
- الخلوة في غار حراء: كان صلى الله عليه وسلم يخلو بنفسه في غار حراء في جبل النور بالقرب من مكة، يتفكر في خلق السماوات والأرض ويتعبد الله على ملة إبراهيم عليه السلام. كان يمضي الليالي والأيام في هذا الغار بحثًا عن الحق والهداية.
- النفور من الوثنية: لم يستسغ صلى الله عليه وسلم عبادة الأصنام والعادات الجاهلية المنتشرة في مجتمعه، ولم يسجد لصنم قط. كان قلبه يتوق إلى معرفة الخالق الحق.
- البحث عن الدين الصحيح: تشير بعض الروايات إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على تواصل مع بعض أصحاب الديانات السماوية القليلة في مكة، وكان يسألهم ويستفسر عن معتقداتهم بحثًا عن الحق.
الإرهاصات والتنبؤات بالنبوة
تشير بعض الأحداث والروايات إلى وجود إرهاصات وتنبؤات كانت تبشر بقرب نبوة النبي صلى الله عليه وسلم:
- الرؤى الصادقة: قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى رؤى صادقة في منامه قبل البعثة بستة أشهر، وكانت تتحقق كما رآها.
- علامات النبوة: ذكرت بعض الروايات أن بعض أهل الكتاب كانوا يعرفون أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم المنتظر من كتبهم، وقد أشاروا إلى بعض العلامات التي تدل على نبوته.
- أحداث خارقة: وردت بعض القصص عن أحداث خارقة صاحبت ولادته صلى الله عليه وسلم أو وقعت في حياته قبل البعثة.
الخاتمة
تتجلى لنا حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم قبل البعثة كفترة إعداد وتكوين لشخصية فريدة ومتميزة. نشأ يتيمًا وعاش حياة بسيطة، لكنه تميز بأخلاق رفيعة وصفات حميدة أكسبته احترام مجتمعه. كان الصادق الأمين، الحليم الصبور، الكريم الجواد، العفيف الطاهر، الوفي بالعهد، العادل المنصف، المتواضع. زواجه من خديجة رضي الله عنها كان سندًا عظيمًا له. مشاركته في الأحداث الاجتماعية تدل على وعيه ومسؤوليته تجاه مجتمعه. أما تأملاته الروحية وخلوته في غار حراء فكانت تعبيرًا عن بحثه الدؤوب عن الحق واليقين. إن هذه المرحلة الهامة من حياته صلى الله عليه وسلم تُظهر لنا جوانب عظيمة من شخصيته وتُمهد لفهم عظمة الرسالة التي حملها والتحول الذي أحدثه في العالم. فحياة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة لم تكن مجرد مقدمة للنبوة، بل كانت بذرة الخير والنور التي أضاءت فيما بعد دروب البشرية.