نزول الوحي والدعوة

مقدمة

يمثل نزول الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وسلم نقطة تحول مفصلية في تاريخ البشرية، وبداية لعهد جديد من الهداية والنور. هذه اللحظة التاريخية، التي تجسدت في أول لقاء بين النبي الأمين والملك جبريل عليه السلام في غار حراء، لم تكن مجرد حدث شخصي للنبي صلى الله عليه وسلم، بل كانت إيذانًا ببدء الرسالة الإسلامية الخاتمة التي حملت في طياتها قيمًا ومبادئ سامية غيرت وجه العالم. أعقب نزول الوحي فترة حاسمة من الدعوة السرية ثم الجهرية، واجه خلالها النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون الأوائل تحديات وصعوبات جمة في سبيل نشر هذه الرسالة الجديدة.

إن فهم كيفية نزول الوحي وتفاصيل هذه اللحظة التاريخية، بالإضافة إلى المراحل الأولى للدعوة الإسلامية والصعوبات التي واجهتها، يُعدّ أمرًا بالغ الأهمية لفهم نشأة الإسلام وتطوره. كما يُساعد في تقدير التضحيات الجسام التي بذلها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في سبيل إيصال هذه الرسالة إلى الناس. إن دراسة هذه الفترة الزمنية الحاسمة تُلقي الضوء على الأسس التي قامت عليها الحضارة الإسلامية وتأثيرها العميق على العالم.

 

نزول الوحي – اللحظة التاريخية في غار حراء

  • التوق والتهيؤ الروحي: بعد سنوات من التأمل والخلوة في غار حراء، كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم مهيئًا روحيًا لاستقبال أمر عظيم. كان صلى الله عليه وسلم يتعبد الله على ملة إبراهيم عليه السلام، ويتوق إلى معرفة الحق.
  • اللقاء الأول بالملك جبريل: في إحدى ليالي شهر رمضان المبارك، بينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعبد في غار حراء، نزل عليه الملك جبريل عليه السلام، وهو ملك الوحي الذي يرسله الله تعالى إلى أنبيائه ورسله.
  • أولى الآيات: روى البخاري في صحيحه عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: “أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ – وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَيْهِ أَهْلَهُ – وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ بِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ. قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5]”.  
  • الرجوع إلى خديجة والاطمئنان: بعد هذا اللقاء المهيب، رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى زوجته خديجة رضي الله عنها خائفًا مرتعدًا، وقال: “زملوني زملوني”. فزملوه حتى ذهب عنه الروع. ثم أخبرها بما رأى، فقالت له: “كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ”. ثم انطلقت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، وكان يعلم من الكتاب، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما رأى، فقال ورقة: “هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ”. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟” قال: “نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا”.  
  • فترة فتور الوحي: بعد نزول أولى الآيات، تلتها فترة انقطاع مؤقت للوحي، عانى خلالها النبي صلى الله عليه وسلم من الشوق والقلق والترقب.

المراحل الأولى للدعوة الإسلامية

  • الدعوة السرية: بعد فترة فتور الوحي، استأنف نزول القرآن الكريم. بدأت الدعوة الإسلامية سرًا، حيث دعا النبي صلى الله عليه وسلم أقرب الناس إليه وأصدقائه المقربين. كان أول من آمن به من الرجال أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ومن النساء زوجته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، ومن الموالي زيد بن حارثة رضي الله عنه، ومن الصبيان علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
  • نطاق الدعوة السرية: استمرت الدعوة سرًا لمدة ثلاث سنوات تقريبًا، وخلال هذه الفترة آمن عدد قليل من الناس بالإسلام، وكانوا يجتمعون سرًا ويتدارسون القرآن ويتعلمون تعاليم الدين الجديد.
  • الدعوة الجهرية: بعد ثلاث سنوات من الدعوة السرية، أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالجهر بالدعوة وإعلانها للناس كافة، قال تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94].
  • بداية الجهر بالدعوة: امتثل النبي صلى الله عليه وسلم لأمر الله، وبدأ يدعو قومه علانية إلى الإسلام. بدأ بدعوة عشيرته الأقربين، ثم بدأ يدعو أهل مكة عامة.

التحديات والصعوبات التي واجهت الدعوة في مكة

واجهت الدعوة الإسلامية في مكة منذ بدايتها صعوبات وتحديات جمة:

  • معارضة قريش: قوبلت الدعوة الإسلامية بمعارضة شديدة من قبل زعماء قريش الذين رأوا فيها تهديدًا لسلطتهم الدينية والاجتماعية والاقتصادية. كانوا يعبدون الأصنام ويتمسكون بتقاليد آبائهم وأجدادهم.
  • الاستهزاء والسخرية: تعرض النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون الأوائل للاستهزاء والسخرية والتحقير من قبل المشركين. كانوا يلقبون النبي صلى الله عليه وسلم بأوصاف نابية ويشوهون صورته.
  • الاضطهاد والتعذيب: تعرض المسلمون الأوائل، وخاصة الضعفاء منهم والعبيد، لألوان من الاضطهاد والتعذيب لإجبارهم على ترك الإسلام. من أبرز من تعرض للتعذيب بلال بن رباح وعمار بن ياسر وأمه سمية رضي الله عنهم.
  • المقاطعة الاقتصادية والاجتماعية: لجأت قريش إلى مقاطعة بني هاشم وبني المطلب اقتصاديًا واجتماعيًا للضغط على النبي صلى الله عليه وسلم للتخلي عن دعوته. استمرت هذه المقاطعة لعدة سنوات وعانى خلالها المسلمون من الجوع والضيق.
  • محاولات القتل: بلغت معارضة قريش ذروتها بالتفكير في قتل النبي صلى الله عليه وسلم للتخلص من دعوته.

صبر وثبات النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين الأوائل

على الرغم من كل هذه التحديات والصعوبات، أظهر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون الأوائل صبرًا وثباتًا عظيمين على الحق:

  • ثبات النبي صلى الله عليه وسلم: لم يتزعزع النبي صلى الله عليه وسلم أمام كل الضغوط والإغراءات التي عرضتها عليه قريش للتخلي عن دعوته. كان صلى الله عليه وسلم واثقًا من رسالته ومؤمنًا بنصر الله.
  • صبر المسلمين الأوائل: تحمل المسلمون الأوائل صنوف العذاب والاضطهاد بصبر وجلد، ولم يتراجعوا عن إيمانهم. كانوا يرون في الإسلام النور والهداية التي تستحق كل تضحية.
  • الهجرة إلى الحبشة: عندما اشتد الأذى على المسلمين في مكة، أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى الحبشة، حيث كان يحكمها ملك عادل لا يظلم عنده أحد. كانت هذه الهجرة بمثابة فرج للمسلمين وحماية لهم من بطش قريش.

أهمية نزول الوحي في تشكيل العقيدة الإسلامية

يمثل نزول الوحي حجر الزاوية في تشكيل العقيدة الإسلامية:

  • مصدر التشريع: القرآن الكريم، وهو كلام الله تعالى الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي، هو المصدر الأول والأساسي للتشريع في الإسلام.
  • تحديد أصول الإيمان: الوحي هو الذي بين أصول الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
  • توضيح العبادات والأخلاق: الوحي هو الذي شرع العبادات المختلفة مثل الصلاة والزكاة والصوم والحج، وبين الأخلاق والقيم الإسلامية.
  • هداية للبشرية: الوحي هو النور والهداية التي أخرج الله بها الناس من الظلمات إلى النور.

أهمية المراحل الأولى للدعوة في بناء المجتمع المسلم الأول

لعبت المراحل الأولى للدعوة دورًا حاسمًا في بناء المجتمع المسلم الأول:

  • تكوين النواة الأولى للمسلمين: خلال الدعوة السرية والجهرية الأولى، تكونت النواة الأولى للمجتمع المسلم المؤمن بالرسالة.
  • غرس قيم الإيمان والتضحية: واجه المسلمون الأوائل صعوبات جمة، مما رسخ فيهم قيم الإيمان العميق والتضحية في سبيل الله.
  • التأكيد على الوحدة والأخوة: على الرغم من اختلاف أصولهم ومكانتهم الاجتماعية، وحد الإسلام بين المسلمين الأوائل وأرسى بينهم أسس الأخوة والمحبة.
  • وضع الأسس الأولى للدولة الإسلامية: التجارب والصعوبات التي واجهها المسلمون في مكة كانت بمثابة إعداد لهم لتحمل مسؤولية بناء الدولة الإسلامية في المدينة المنورة لاحقًا.

الخاتمة

يتبين لنا أن نزول الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وسلم كان حدثًا تاريخيًا عظيمًا، إيذانًا ببدء الرسالة الإسلامية الخاتمة وهداية البشرية جمعاء. أعقب هذا الحدث فترة حاسمة من الدعوة السرية ثم الجهرية، واجه خلالها النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون الأوائل تحديات وصعوبات جمة في سبيل نشر هذه الرسالة الجديدة. صبر وثبات النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين الأوائل على الحق، وتمسكهم بإيمانهم رغم كل الصعاب، يمثل نموذجًا فريدًا في تاريخ الدعوات. لقد شكل نزول الوحي الأساس الذي قامت عليه العقيدة الإسلامية، بينما أرست المراحل الأولى للدعوة الأسس الأولى للمجتمع المسلم القائم على الإيمان والتضحية والأخوة. إن فهم هذه الفترة الزمنية الحاسمة يُعدّ ضروريًا لتقدير عظمة الرسالة الإسلامية وتأثيرها الدائم على العالم. فنور الوحي الذي أشرق في غار حراء استمر ليضيء دروب البشرية إلى يومنا هذا.

روابط تحميل البحث

تحميل البحث

تحميل البحث