الصحابية ( رفيدة الأسلمية )

رائدة التمريض في الإسلام .. حين امتزجت الرحمة بالعلم والخدمة بالإيمان

المقدمة

تاريخنا الإسلامي زاخر بنماذج عظيمة من النساء اللواتي شاركن في بناء الأمة، لا في البيوت فقط، بل في ساحات الدعوة، والطب، والتعليم، والجهاد، وخدمة المجتمع. ومن بين هذه النماذج المضيئة، تبرز سيرة الصحابية الجليلة رفيدة الأسلمية رضي الله عنها، أول امرأة مارست التمريض في الإسلام، وقدّمت نموذجًا فريدًا في خدمة الجرحى، والعناية بالمصابين، وإغاثة المسلمين في لحظات الشدة.

رفيدة لم تكن طبيبة فقط، بل كانت رحمًا تمشي بين الناس، وإيمانًا ينبض في مهنة الرحمة. جمعت بين علمها بالطب، وحبها للعمل الخيري، وبين ولائها لله ورسوله، فصارت بحق رائدة العمل الطبي والاجتماعي في الإسلام.

في هذا البحث، نسلط الضوء على حياتها، ونشأتها، ومكانتها في الإسلام، ودورها في غزوات النبي ﷺ، ثم نقف معًا عند الدروس المستفادة من سيرة هذه المرأة العظيمة، التي جسّدت أن المرأة المسلمة قادرة على العطاء، والتأثير، والقيادة، متى ما توفرت لها نية صادقة ورسالة سامية.

 

نسبها ونشأتها

هي رفيدة بنت سعد الأسلمية، من قبيلة بني أسلم، إحدى القبائل المعروفة في المدينة المنورة. وُلدت في يثرب (المدينة قبل الهجرة)، في بيت عرف بالمروءة والخدمة، ونشأت في بيئة ساعدتها على التعلم والملاحظة.

أظهرت منذ صغرها ميلًا فطريًا إلى رعاية المرضى ومساعدة المحتاجين، وكانت تحضر المجالس الطبية التي عُرفت في المدينة، فتعلّمت شيئًا من أساليب الطب، ومعالجة الجروح، والعناية بالمرضى.

ومع مجيء الإسلام، كان قلبها مفتوحًا للهداية، فآمنت برسول الله ﷺ، وصدّقت بما جاء به، واعتبرت الإسلام فرصة لخدمة الدين والناس معًا، فسخّرت علمها وخبرتها في الطب في سبيل الله.

 

مكانتها في الإسلام

تُعد رفيدة أول امرأة تُمارس التمريض والطب بشكل رسمي في الإسلام، وكان لها خيمة طبية شهيرة تنصبها بجوار مسجد النبي ﷺ، تُداوي فيها الجرحى وتعتني بالمرضى.

وقد بارك النبي ﷺ عملها، وسمح لها بأن تعالج جرحى المسلمين في غزواته، بل وخصّص لها خيمة متقدمة في المعركة، وهذا يُعد سابقة في ذلك الزمن، أن تتصدر امرأة هذا الدور الحيوي.

وكانت تُدرّب النساء والفتيات على الإسعافات الأولية، وربّت جيلاً من المسلمات القادرات على تقديم الخدمة الطبية، مثل الصحابية أم عطية الأنصارية وغيرها.

وقد كانت أعمالها خيرية بالكامل، لا تأخذ أجرًا عليها، بل تحتسبها لوجه الله تعالى، وكان الناس يوقّرونها، ويُشيرون إليها بإعجاب واحترام، لما رأوه من إخلاصها وتفانيها.

 

دورها في غزوات النبي ﷺ

كان لرفيدة الأسلمية حضور واضح في عدة غزوات، أبرزها:

  1. غزوة بدر: رغم عدم مشاركتها بالقتال، فإنها كانت حاضرة بخيمتها، تُجهز الدواء وتعتني بالمصابين، وتُتابع حالاتهم لحظة بلحظة. وكان حضورها يبعث الطمأنينة في قلوب الجنود، إذ عرفوا أن هناك من سيواسيهم ويرعاهم إن أصيبوا.
  2. غزوة أحد: كان يوم أحد يومًا عصيبًا، وكثرت فيه الجراح والدماء، فكان لرفيدة دور بطولي. أذن لها النبي ﷺ بأن تنقل الجرحى إلى خيمتها، وأن تُباشر علاجهم، وكان من بينهم الصحابي الجليل سعد بن معاذ، الذي أُصيب بسهم فأمر النبي أن يُنقل إلى خيمتها لثقته في مهارتها. وقد ورد في كتب السيرة أن النبي ﷺ قال: “اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعود إليه.” وهذا التوجيه النبوي يدل على مكانتها العالية وثقة الرسول بها، لا في قدرتها فقط، بل في أخلاقها وأمانتها أيضًا.

 

جوانب من شخصيتها وأخلاقها

  1. الرحمة والرفق: لم يكن عمل رفيدة عملاً طبيًا جافًا، بل كان رحمةً متدفقة. كانت تعتني بالمصاب كما تعتني الأم بابنها، وكان حضورها يبعث الراحة في قلوب الجرحى.
  2. القيادة والتنظيم: كانت تُدير خيمتها كأنها مستشفى مصغر، فيها تقسيم للمهام، وتعليمات واضحة، وطاقم من النساء يعمل معها. وهذا يدل على روح القيادة والإدارة التي كانت تتمتع بها، في وقت لم يكن للنساء فيه مثل هذا الدور علنًا.
  3. حب العلم والخدمة: طلبت العلم ولم تحتكره، بل درّبت غيرها، وعلّمت نساء المسلمين فنون التمريض، وهذا ما جعل عملها مستدامًا ومثمرًا.

دورها في ترسيخ العمل الخيري في الإسلام

رفيدة لم تكن موظفة تؤدي واجبًا، بل رائدة في العمل الخيري المؤسسي. لقد جسّدت مفهوم “الوقف الصحي” بشكل عملي، فجعلت خيمتها وقفًا لخدمة المسلمين، وعلمت الناس أن الطب ليس تجارة فقط، بل رسالة. وكانت تُنفق من مالها، وتُقدم الدواء والطعام مجانًا، وتعامل المرضى بلطف ومساواة، لا تفرق بين غني وفقير، ولا مهاجري وأنصاري. لقد كرّست حياتها للناس ولوجه الله، ونجحت في أن تجعل من الطب مهنة تحبها النساء، ويسندها المجتمع، ويباركها الدين.

 

الأثر الذي تركته

رغم عدم وجود كتب كثيرة توثق تفاصيل حياتها، إلا أن أثرها واضح في النقاط التالية:

  • أول من أنشأ مستوصفًا ميدانيًا في الإسلام
  • أول امرأة تُشرف على فريق طبي من النساء
  • من أوائل من مارسوا التمريض العملي في التاريخ الإسلامي
  • قدوة في الجمع بين العلم والإيمان، والرحمة والانضباط

وقد بقي اسمها يُذكر حتى عصرنا هذا كـ أيقونة طبية إسلامية نسائية، واستُلهمت سيرتها في العديد من المستشفيات والمؤسسات الصحية التي حملت اسمها.

 

دروس مستفادة من سيرة رفيدة

  1. المرأة المسلمة قادرة على الريادة إذا أُتيح لها المجال: رفيدة نموذج حي للمرأة التي جمعت بين التدين والمهنية، والإخلاص والكفاءة.
  2. العلم يجب أن يُسخّر لخدمة الناس لا للتفاخر: لم تتخذ من علمها وسيلة للجاه أو المال، بل أوقفته لله.
  3. خدمة المجتمع باب عظيم للأجر: التمريض في الإسلام ليس عملًا ثانويًا، بل عبادة إن احتُسبت.
  4. القيادة ليست حكرًا على الرجال: استطاعت أن تدير خيمتها، وتُنسق فريقها، وتكسب ثقة النبي ﷺ.

الخاتمة

إن سيرة رفيدة الأسلمية رضي الله عنها، لا تُعد مجرد صفحة مشرقة من تاريخ النساء في الإسلام، بل هي درس متجدد في كل عصر، بأن خدمة الناس من أعظم القربات، وأن المرأة تستطيع أن تكون فاعلة، وراعية، وقائدة، حين تتحلى بالإخلاص وتُمسك بزمام المعرفة.

لقد خلّدت هذه الصحابية الجليلة اسمها في التاريخ، لا بالكلام أو الشعارات، بل بجهاد يومي صامت، ويد حانية تضمد الجراح، وقلب مليء بالإيمان والرحمة.

رحم الله رفيدة، ورضي عنها، وجعل سيرتها نورًا لكل فتاة تريد أن تسير على درب العطاء النبيل.

روابط تحميل البحث

تحميل البحث

تحميل البحث