سورة التحريم

مقدمة

تُعدّ سورة التحريم من السور المدنية التي نزلت في سياق حادثة خاصة تتعلق بتحريم النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه بعض الطيبات إرضاءً لبعض أزواجه، ولكنها سرعان ما تجاوزت هذه الحادثة لتضع أسسًا ومبادئ عظيمة لحفظ الأسرة المسلمة وتقوية بنيانها، وتحديد المسؤوليات والواجبات المتبادلة بين أفرادها. تتناول السورة قضايا حساسة تتعلق بالعلاقات الزوجية، وأهمية طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فوق كل اعتبار، ومسؤولية القوامة في حفظ الأهل وتوجيههم نحو الخير، والتحذير من النار ودعوة المؤمنين إلى التوبة النصوح. سورة التحريم ليست مجرد معالجة لواقعة تاريخية، بل هي دستور أسري متكامل يهدف إلى بناء بيوت مسلمة قائمة على المودة والرحمة والطاعة لله، وحماية أفرادها من الزلل والانحراف. إن فهم معاني هذه السورة والعمل بتوجيهاتها يُسهم في بناء أسر قوية ومستقرة تُرضي الله عز وجل.

 

التعريف بسورة التحريم وأهميتها

سورة التحريم هي السورة السادسة والستون في ترتيب المصحف الشريف، وهي سورة مدنية نزلت بعد سورة الحجرات. سُميت بهذا الاسم لورود ذكر “التحريم” فيها في الآية الأولى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

تكمن أهمية سورة التحريم في عدة جوانب:

  • وضع أسس حفظ الأسرة المسلمة: تُقدم السورة مبادئ وتوجيهات هامة للحفاظ على استقرار الأسرة وسعادتها.
  • بيان أهمية طاعة الله ورسوله: تُؤكد السورة على أن طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم مقدمة على أي اعتبار آخر، حتى إرضاء الأهل.
  • تحديد مسؤولية القوامة: تُوضح السورة مسؤولية الرجل في حفظ أهله وتوجيههم نحو الخير والوقاية من النار.
  • التحذير من النار والحث على التوبة: تُذكر السورة المؤمنين بعذاب النار وتدعوهم إلى التوبة النصوح.
  • تقديم نماذج إيجابية وسلبية: تُشير السورة إلى نماذج من النساء المؤمنات والصالحات ونماذج أخرى كافرات وعاصيات للعبرة.
  • فضل قراءتها: وردت بعض الآثار التي تُشير إلى فضل قراءة هذه السورة والتدبر في معانيها.

استعراض أبرز موضوعات ومقاصد سورة التحريم الأساسية

تتناول سورة التحريم مجموعة من الموضوعات والمقاصد الأساسية التي تهدف إلى بناء أسرة مسلمة قوية ومستقرة:

  • حادثة التحريم وتوجيه الله للنبي صلى الله عليه وسلم: تبدأ السورة بعتاب لطيف للنبي صلى الله عليه وسلم على تحريمه ما أحل الله له إرضاءً لبعض أزواجه، وتُبين أن الله غفور رحيم، وتُشير إلى مشروعية التحلل من اليمين.
  • توجيه المؤمنين بشأن حفظ الأهل من النار: تُوجه السورة نداءً للمؤمنين بضرورة وقاية أنفسهم وأهليهم من النار من خلال تربيتهم على الطاعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
  • التحذير من عذاب الكافرين والمنافقين: تُذكر السورة الكافرين والمنافقين بعذاب النار الذي ينتظرهم وتُبين أن أعذارهم لن تُقبل يوم القيامة.
  • الحث على التوبة النصوح: تدعو السورة المؤمنين إلى التوبة الخالصة الصادقة التي تمحو الذنوب وتُقرب إلى الله.
  • ذكر نماذج من النساء المؤمنات والصالحات: تُشير السورة إلى نماذج مشرفة من النساء المؤمنات كزوجة فرعون ومريم ابنة عمران عليهما السلام، اللتين ضرب الله بهما المثل للمؤمنين في الإيمان والصلاح والثبات على الحق.
  • ذكر نماذج من النساء الكافرات والعاصيات: تُشير السورة إلى نماذج سيئة من النساء كزوجتي نوح ولوط عليهما السلام، اللتين لم ينفعهما كونهما زوجتين لنبيين بسبب كفرهما وعصيانهما.

التأكيد على مسؤولية القوامة في حفظ الأهل من النار

تُولي سورة التحريم اهتمامًا خاصًا بمسؤولية الرجل كقوام على أسرته في حفظهم وتوجيههم نحو الخير والوقاية من النار، وذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم: 6.)

تتضمن هذه الآية تكليفًا واضحًا للمؤمنين بمسؤوليتهم تجاه أهليهم، ولا يقتصر الأمر على وقاية النفس من النار بالإيمان والعمل الصالح، بل يتعداه إلى بذل الجهد في وقاية الأهل (الزوجة والأبناء) من النار أيضًا. يتحقق ذلك من خلال:

  • تعليمهم أمور الدين: تعريفهم بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأركان الإيمان والإسلام.
  • حثهم على الطاعة: أمرهم بالصلاة والصيام والأعمال الصالحة وتشجيعهم عليها.
  • نهيهم عن المعاصي والمنكرات: منعهم من الوقوع في الذنوب والتحذير من عواقبها.
  • توفير البيئة الصالحة في المنزل: إبعادهم عن المؤثرات السيئة وتوفير القدوة الحسنة.
  • الدعاء لهم بالهداية والصلاح.

إن القيام بهذه المسؤولية هو من صميم القوامة التي منحها الله للرجل، وهو أمانة عظيمة سيُسأل عنها يوم القيامة.

 

التحذير من النار والحث على التوبة النصوح

تُكرر سورة التحريم التحذير من عذاب النار الذي أعده الله للكافرين والمنافقين والعصاة، وذلك لترهيب المؤمنين وحثهم على الاستقامة والبعد عن المعاصي. كما تدعو السورة إلى التوبة النصوح، وهي التوبة الصادقة الخالصة التي تستوفي شروطها من الإقلاع عن الذنب والندم عليه والعزم على عدم العودة إليه ورد الحقوق إلى أهلها إن كانت متعلقة بحقوق العباد.

يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (التحريم: 7)، ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (التحريم: 8}  .

هذه الآيات تُبين أهمية التوبة وفضلها وأنها سبيل لمغفرة الذنوب ودخول الجنة، وتحث المؤمنين على المسارعة إليها قبل فوات الأوان.

 

الأثر التربوي والأخلاقي لسورة التحريم في بناء الأسر المسلمة

تُحدث سورة التحريم أثرًا تربويًا وأخلاقيًا عميقًا في بناء الأسر المسلمة:

  • ترسيخ مبدأ طاعة الله ورسوله: تُعلم السورة أن رضا الله وطاعته مقدمان على أي اعتبار بشري.
  • تحديد مسؤولية القوامة: تُوضح دور الرجل في رعاية أسرته وتوجيهها نحو الخير.
  • تأكيد مسؤولية جميع أفراد الأسرة: تُشير إلى مسؤولية الزوجات والأبناء في طاعة الله ورسوله والتعاون على البر والتقوى.
  • الحث على التربية الإيمانية للأبناء: تُؤكد على أهمية غرس القيم والأخلاق الإسلامية في نفوس النشء.
  • التحذير من أسباب تفكك الأسر: تُلمح إلى أن إيثار رضا المخلوق على رضا الخالق قد يُؤدي إلى مشاكل في الأسرة.
  • الدعوة إلى التوبة والإصلاح: تُفتح باب الأمل بالتوبة النصوح وإصلاح الذات والأسرة.
  • تقديم القدوة الحسنة والسيئة: من خلال ذكر نماذج من النساء المؤمنات والكافرات للعبرة والاقتداء.

إن العمل بتوجيهات سورة التحريم يُسهم في بناء أسر مسلمة قوية ومستقرة تسعى لرضوان الله، وتحافظ على نفسها وأهلها من النار، وتكون لبنة صالحة في بناء المجتمع المسلم.

 

خاتمة

تُعدّ سورة التحريم ميزانًا دقيقًا للأسرة المسلمة وقواعد حفظها، حيث تُبين أهمية طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فوق كل اعتبار، وتُحدد مسؤولية القوامة في حفظ الأهل وتوجيههم نحو الخير، وتُحذر من النار وتدعو إلى التوبة النصوح. من خلال استعراض حادثة التحريم وتداعياتها، تُقدم السورة دروسًا وعبرًا قيمة لبناء أسر مسلمة نموذجية قائمة على المودة والرحمة والطاعة لله. إن فهم معاني سورة التحريم والعمل بتوجيهاتها يمثل خطوة أساسية نحو بناء أسر سعيدة ومستقرة في الدنيا والآخرة، وحماية أنفسنا وأهلينا من عذاب الله، والسعي لنيل رضوانه وجنته. فلنحرص على قراءة هذه السورة المباركة وتدبر آياتها والعمل بما فيها من هدايات وتوجيهات.

روابط تحميل البحث

تحميل البحث

تحميل البحث