الحلف بغير الله
تجاوز للحدود وتعدٍ على حق الخالق في ميزان الإسلام

مقدمة
في صميم العقيدة الإسلامية، يتجلى التوحيد الخالص لله عز وجل في جميع جوانب حياة المسلم، قولًا وعملًا واعتقادًا. ومن أبرز مظاهر هذا التوحيد، تعظيم الله تعالى وإفراده بالعبادة، وعدم الشرك به شيئًا. ويشمل ذلك حتى الأيمان والعهود التي يقسم بها الإنسان، فالحلف هو تعظيم للمحلوف به، ولا يجوز تعظيم أي مخلوق كمثل تعظيم الخالق. لذا، يعتبر الحلف بغير الله في الشريعة الإسلامية تجاوزًا للحدود وتعديًا على حق الله وحده في التعظيم والإجلال، وهو من صور الشرك الأصغر الذي قد يجر صاحبه إلى الشرك الأكبر إذا عظم المحلوف به كتعظيم الله أو اعتقد فيه ما لا يملكه إلا الله. إن فهم خطورة الحلف بغير الله وأدلته من الكتاب والسنة، واستيعاب أنواعه وأحكامه، والتعرف على الكفارة المشروعة لمن وقع فيه سهوًا أو جهلًا، يمثل ضرورة حتمية لكل مسلم حريص على سلامة عقيدته وتوحيده الخالص لله رب العالمين.
مفهوم الحلف وأهميته في الإسلام
مفهوم الحلف (اليمين): الحلف لغةً هو العهد والميثاق والتوكيد. واصطلاحًا هو ربط النفس بفعل شيء أو تركه أو تصديق خبر أو تكذيبه، مع الاستشهاد بالله تعالى أو باسم من أسمائه أو صفة من صفاته على صدق ما يقول أو فعل ما يحلف عليه أو تركه.
أهمية الحلف في الإسلام: الأيمان شرعت لتوكيد الحقوق وقطع المنازعات وحسم الأمور المهمة التي تحتاج إلى تأكيد وتوثيق. وهي وسيلة لتقوية العهود والمواثيق بين الناس. وقد أقسم الله تعالى بنفسه وبمخلوقاته في القرآن الكريم لبيان عظمة المقسم به وأهمية المقسم عليه.
حكم الحلف بغير الله وأدلته من الكتاب والسنة
يحرم في الشريعة الإسلامية الحلف بغير الله تعالى تحريمًا شديدًا، وتعتبر من صور الشرك الأصغر، وقد يصل إلى الشرك الأكبر بحسب تعظيم المحلوف به والاعتقاد فيه. وقد وردت أدلة صريحة في الكتاب والسنة تحذر من ذلك:
من السنة النبوية:
- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ». [رواه أبو داود والترمذي وحسنه] وفي رواية: «فَقَدْ كَفَرَ».
- وعن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَلَفَ بِالْأَمَانَةِ فَلَيْسَ مِنَّا». [رواه أبو داود] والأمانة من صفات الله ومن حقوق العباد، والحلف بها تعظيم لغير الله كما يعظم الله.
- وعن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِأُمَّهَاتِكُمْ وَلَا بِالْأَنْدَادِ، وَلَا تَحْلِفُوا إِلَّا بِاللَّهِ، وَلَا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ إِلَّا وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ». [رواه أبو داود والنسائي] والأنداد هم الشركاء والنظراء الذين يتخذون من دون الله.
- وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَحْلِفُوا بِالنُّجُومِ». [رواه أحمد وأبو داود] والنجوم من مخلوقات الله، والحلف بها تعظيم لها.
وجه الدلالة من الأدلة: هذه الأحاديث صريحة في النهي عن الحلف بغير الله، وتصفه بالشرك والكفر، وتأمر بالاقتصار على الحلف بالله وحده، مع التأكيد على الصدق في الحلف بالله. وعلة التحريم هي أن الحلف نوع من التعظيم والإجلال، ولا يستحق التعظيم والإجلال المطلق إلا الله وحده.
أنواع المحلوف به غير الله وحكمها
يشمل الحلف بغير الله صورًا وأنواعًا متعددة، كلها محرمة:
- الحلف بالمخلوقات: كالحلف بالكعبة، أو بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو بالملائكة، أو بالأنبياء، أو بالأولياء، أو بالصالحين، أو بالملوك، أو بالحياة، أو بالروح، أو بالجنة، أو بالنار، أو بالنجوم، أو بالشمس، أو بالقمر، أو بالأرض، أو بالسماء، أو بالآباء والأمهات والأجداد.
- الحلف بالأمانة: سواء كانت أمانة الله أو أمانة العباد.
- الحلف بالملل والأديان غير الإسلام: كالحلف باليهودية أو النصرانية أو غيرها.
- الحلف بالأوثان والأصنام: وهو من صور الشرك الأكبر.
- الحلف بصفات المخلوقين: كالحلف بشرف فلان أو بذمة فلان.
وكل هذه الأنواع من الحلف بغير الله محرمة، لأنها تعظيم لغير الله كما يعظم الله، أو تشبيه المخلوق بالخالق في حقه تعالى في التعظيم والإجلال.
الفرق بين الحلف بصفات الله والحلف بذاته وأسمائه
يجوز الحلف بالله تعالى وبأسمائه وصفاته الثابتة في الكتاب والسنة، بل هو المشروع والمأمور به:
- الحلف بذات الله وأسمائه: كقول: “والله”، “ورب الكعبة”، “والرحمن”، “والعزيز”.
- الحلف بصفات الله: كقول: “وعزة الله”، “وقدرة الله”، “وعلم الله”، “وكلام الله”.
والفرق بين الحلف بالله وأسمائه وصفاته والحلف بغير الله هو أن الله تعالى هو المستحق للتعظيم والإجلال المطلق، وكل ما سواه مخلوق ضعيف لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا إلا بإذن الله.
حكم من حلف بغير الله سهوًا أو جهلًا
اختلف العلماء في حكم من حلف بغير الله سهوًا أو جهلًا:
- القول الأول: لا إثم عليه ولا كفارة، لأنه معذور بجهله أو سهوه. وهذا قول بعض أهل العلم.
- القول الثاني: يأثم وعليه أن يستغفر الله ويتوب إليه، ولا تلزمه كفارة. وهذا قول جمهور العلماء.
- القول الثالث: يأثم وعليه كفارة يمين، قياسًا على الحلف بالله ثم الحنث فيه. وهذا قول قليل من أهل العلم.
والأظهر والله أعلم هو القول الثاني، بأنه يأثم وعليه الاستغفار والتوبة، لأن النهي عن الحلف بغير الله عام يشمل العمد والسهو والجهل، ولكن الإثم في حالة العمد والذكر أعظم. أما الكفارة فلا تلزمه لعدم ورود نص صريح فيها في هذه الحالة.
الكفارة المشروعة لمن حلف بالله ثم حنث في يمينه
الكفارة مشروعة لمن حلف بالله تعالى ثم حنث في يمينه، وهي على التخيير بين ثلاثة أمور:
- إطعام عشرة مساكين: لكل مسكين نصف صاع من طعام (ما يقارب كيلو ونصف من الأرز أو غيره من قوت الآدميين).
- كسوة عشرة مساكين: كسوة تستر العورة وتجزي في الصلاة.
- تحرير رقبة مؤمنة: عتق عبد مسلم.
فمن لم يجد واحدًا من هذه الثلاثة، فعليه صيام ثلاثة أيام متتابعة. ولا يجوز الانتقال إلى الصيام إلا بعد العجز عن الإطعام والكسوة وتحرير الرقبة.
الخاتمة
إن الحلف بغير الله من الأمور التي يجب على المسلم الحذر منها والابتعاد عنها، لما فيها من مخالفة صريحة للنصوص الشرعية ومنافاة لكمال التوحيد. فالله وحده هو المستحق للتعظيم والإجلال المطلق، ولا يجوز أن يشرك معه في ذلك أحد من خلقه. الواجب على المسلم أن يعظم الله تعالى في أقواله وأفعاله واعتقاداته، وأن يقتصر على الحلف به وحده عند الحاجة إلى ذلك، مع التأكيد على الصدق في يمينه. ومن وقع في الحلف بغير الله سهوًا أو جهلًا فعليه أن يستغفر الله ويتوب إليه، وأن يعزم على عدم العودة إلى ذلك. فسلامة العقيدة هي أغلى ما يملكه المسلم، والتوحيد الخالص هو أساس دينه ونجاته في الدنيا والآخرة. فلنحرص جميعًا على تحقيق التوحيد الخالص لله رب العالمين في جميع شؤون حياتنا، صغيرها وكبيرها، ظاهرها وباطنها.