عشر ذي الحجة
أيام مباركات وموسم للطاعات والقربات

مقدمة
تتجلى عظمة الشريعة الإسلامية وشموليتها في تخصيص أوقات وأزمنة مباركة، تتضاعف فيها الأجور وتتنزل فيها الرحمات، ليغتنمها المسلمون في التزود من الخيرات والقربات. ومن بين هذه الأوقات الفاضلة، تبرز عشر ذي الحجة كأيام عظيمة القدر، شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها أفضل أيام الدنيا. إنها أيام تسبق عيد الأضحى المبارك، وتحمل في طياتها فضائل جمة وأعمالًا مستحبة، وتمثل فرصة سانحة للمسلمين للتقرب إلى الله تعالى بأنواع الطاعات والقربات، استعدادًا ليوم النحر العظيم وما يتبعه من أيام التشريق المباركة. إن فهم فضل هذه الأيام العشر وعظيم منزلتها، والتعرف على الأعمال المستحبة فيها وأحكامها الشرعية، يمثل زادًا هامًا لكل مسلم حريص على اغتنام مواسم الخير والبركة، والسعي لنيل رضا الله وجنته.
فضل عشر ذي الحجة وعظيم منزلته
تتمتع عشر ذي الحجة بفضل عظيم ومنزلة رفيعة في الشريعة الإسلامية، وقد دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة:
القسم بها في القرآن الكريم: أقسم الله تعالى بها في كتابه العزيز، فقال: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1-2]. وقد ذهب جمهور المفسرين من الصحابة والتابعين وغيرهم إلى أن هذه الليالي العشر هي عشر ذي الحجة، والقسم بالشيء العظيم يدل على عظم شأنه وفضله.
شهادة النبي صلى الله عليه وسلم بفضلها: روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ». قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ». وهذا الحديث يدل على أن العمل الصالح في هذه الأيام أحب إلى الله من الجهاد في سبيله، وهو ذروة سنام الإسلام.
اجتماع أمهات العبادة فيها: قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح: “والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره”. ففي هذه الأيام يجتمع فيها الإحرام والطواف والسعي والوقوف بعرفة ورمي الجمار والأضحية، وهي من أجلّ العبادات.
يوم عرفة فيها: يشتمل عشر ذي الحجة على يوم عرفة، وهو يوم عظيم القدر، يشهد فيه الله تعالى ملائكته بأهل عرفات، وهو يوم مغفرة الذنوب والعتق من النار. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ» [رواه مسلم]. وصيام يوم عرفة لغير الحاج يكفر سنتين، سنة ماضية وسنة مستقبلة.
يوم النحر فيها: يشتمل عشر ذي الحجة على يوم النحر (عيد الأضحى)، وهو أعظم أيام السنة عند الله تعالى، لما فيه من ذبح الأضاحي وإراقة الدماء تقربًا إلى الله، وإظهار الفرح والسرور.
الأعمال المستحبة في عشر ذي الحجة
يستحب للمسلم الإكثار من الأعمال الصالحة في هذه الأيام المباركة، ومن أبرزها:
- الصيام: يستحب صيام التسع الأوائل من ذي الحجة، وخاصة يوم عرفة لغير الحاج، لما ورد في فضله من تكفير الذنوب. أما الحاج فلا يستحب له صيام يوم عرفة ليتقوى على الدعاء والذكر.
- الذكر والتكبير والتهليل والتحميد: يستحب الإكثار من ذكر الله تعالى بأنواع الذكر، وخاصة التكبير المطلق (في كل وقت) والمقيد (أدبار الصلوات) ابتداءً من دخول شهر ذي الحجة حتى نهاية أيام التشريق. وصيغ التكبير المشروعة: “الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد”. و”سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر”.
- قراءة القرآن الكريم: الاشتغال بتلاوة القرآن الكريم وتدبر معانيه من أفضل القربات إلى الله في كل وقت، ويتأكد استحبابه في هذه الأيام المباركة.
- الصدقة والإحسان: الإنفاق في سبيل الله وإطعام الطعام والتصدق على الفقراء والمساكين من الأعمال الصالحة التي يضاعف أجرها في هذه الأيام.
- الأضحية: لمن قدر عليها، فهي من أعظم القربات في يوم النحر وأيام التشريق، وإحياء لسنة إبراهيم عليه السلام.
- الحج والعمرة: هما أفضل الأعمال التي تؤدى في هذه العشر لمن استطاع إليهما سبيلًا، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة.
- التوبة والاستغفار: الإقبال على الله تعالى بالتوبة الصادقة والإكثار من الاستغفار من جميع الذنوب والمعاصي.
- الدعاء: الإلحاح على الله تعالى بالدعاء والتضرع إليه في هذه الأيام المباركة، خاصة في يوم عرفة، فهو من أفضل أوقات الدعاء وأرجى للإجابة.
- صلة الأرحام: تقوية الروابط الأسرية وزيارة الأقارب والإحسان إليهم.
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: دعوة الناس إلى الخير ونهيهم عن الشر بالأسلوب الحسن.
أحكام تتعلق بعشر ذي الحجة
توجد بعض الأحكام الشرعية المتعلقة بهذه الأيام المباركة:
- الإمساك عن الشعر والأظافر للمضحي: يستحب لمن أراد أن يضحي أن يمسك عن قص شعره وتقليم أظافره منذ دخول شهر ذي الحجة حتى يضحي، لما رواه مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا رَأَيْتُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ». وهذا الحكم خاص بمن أراد أن يضحي، ولا يشمل أهل بيته.
- التكبير المطلق والمقيد: يبدأ التكبير المطلق بدخول شهر ذي الحجة ويستمر حتى نهاية أيام التشريق، أما التكبير المقيد فيكون أدبار الصلوات المفروضة ويبدأ من فجر يوم عرفة للحجاج ومن ظهر يوم النحر لغير الحجاج ويستمر حتى عصر آخر أيام التشريق.
- صيام أيام التشريق: يحرم صيام أيام التشريق (الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة) إلا للحاج المتمتع أو القارن الذي لم يجد هديًا.
- الأضحية في أيام التشريق: يجوز ذبح الأضحية في أيام النحر وأيام التشريق الثلاثة.
يوم عرفة وأهميته
يوم عرفة هو اليوم التاسع من ذي الحجة، ويعد من أعظم أيام السنة وأفضلها، وله فضائل عظيمة:
- يوم إكمال الدين وإتمام النعمة: نزلت فيه قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
- يوم المغفرة والعتق من النار: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ».
- يوم يباهي الله به الملائكة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي مَلَائِكَتَهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِأَهْلِ عَرَفَةَ، يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا».
- صيامه يكفر سنتين: قال النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة: «أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ» [رواه مسلم].
- أفضل أيام الدعاء: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» [رواه الترمذي].
يوم النحر وأيام التشريق
يوم النحر هو يوم عيد الأضحى (العاشر من ذي الحجة)، وهو أعظم أيام السنة، وفيه تؤدى فريضة الأضحية. وتتبع يوم النحر ثلاثة أيام تسمى أيام التشريق (الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة)، وهي أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى، ويستمر فيها ذبح الأضاحي.
الخاتمة
إن عشر ذي الحجة هي أيام مباركات وموسم عظيم للطاعات والقربات، وهي فرصة لا تقدر بثمن للمسلمين للتقرب إلى الله تعالى بأنواع الأعمال الصالحة، ونيل فضله ورحمته ومغفرته. فجدير بالمسلم أن يستقبل هذه الأيام بالعزم الصادق على اغتنامها في طاعة الله وذكره وشكره، والإكثار من الأعمال المستحبة فيها، والاجتهاد في الدعاء والتضرع، لعله أن يفوز برضا الله وجنته. ونسأل الله تعالى أن يوفقنا لاغتنام فضل هذه الأيام وأن يتقبل منا صالح الأعمال.