قيمة الإنسان عند الله

ليس بالمظهر ولا المال، بل بالتقوى والعمل الصالح يسمو الإنسان عند خالقه

المقدمة

كثيرًا ما يقيس الناس قيمة الإنسان بمقاييس دنيوية: المال، المنصب، الشهرة، المظهر، أو النسب. وقد يرفعون إنسانًا على آخر لأسباب لا تمتّ للجوهر بصلة، فينتشر الظلم، وينكسر الضعفاء، ويُظلم الصالحون الذين لا يملكون إلا قلوبًا طاهرة وأعمالًا صادقة. لكن حين نعود إلى ميزان الله، نكتشف الحقيقة التي تغيّبها الدنيا: قيمة الإنسان عند الله لا تقاس بما يملكه، بل بما يقدمه من إيمان وخلق وعمل نافع.

في هذا البحث، نتأمل في مكانة الإنسان عند خالقه عز وجل، وكيف كرّمه الله على سائر المخلوقات، وجعل له مسؤولية وغاية، وفتح له أبواب القرب منه، مهما كان أصله أو لونه أو ماله. كما نبيّن كيف ترتقي قيمة الإنسان في ميزان الله بالتقوى، والإخلاص، والعلم، والعمل الصالح، ونختم بالتأكيد على أن نظرتنا لأنفسنا وللناس يجب أن تُبنى على هذا الميزان الإلهي العادل، لا على أوهام البشر.

 

تكريم الله للإنسان منذ الخلق

منذ لحظة خلق الإنسان، أظهر الله عز وجل عظيم مكانته، فقال: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ، وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ، وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ الإسراء: 70

هذا التكريم لم يكن تكريمًا جسديًا فقط، بل هو تكريم عقلي وروحي وخلقي، حيث خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وأسجد له الملائكة، وعلّمه الأسماء كلها، واختاره لحمل الأمانة.

فالله سبحانه خلق الإنسان وخصّه بالعقل الذي يُميّز به بين الحق والباطل، وجعل له إرادة واختيارًا، ومنحه القدرة على التعلّم والتفكّر والإبداع، وهي صفات لم تُعطَ لكائن غيره.

 

معيار التفاضل في الإسلام

الله تعالى لم يجعل الناس سواسية فقط في الخَلق، بل أكّد أن التقوى هي الميزان الوحيد للتفاضل بينهم، فقال: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ الحجرات: 13

وهذا إعلان سماوي واضح أن الكرامة الحقيقية ليست في الحسب ولا النسب، ولا في المال ولا في القوة، وإنما في القرب من الله وطاعته. فربّ غنيٍ لا يساوي عند الله جناح بعوضة، وربّ فقيرٍ يمشي على الأرض وقلبه معلّق بالسماء، فيكون من أولياء الله.

ومن دلائل ذلك أن النبي ﷺ قال: “إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.” رواه مسلم

فالظاهر لا يُقدّم عند الله شيئًا، وإنما العبرة بما يُكنّه القلب وما تعكسه الجوارح من عمل صالح.

 

مظاهر تكريم الله للإنسان

من صور هذه القيمة العظيمة التي أعطاها الله للإنسان:

  • إرساله الرسل إليه: لم يُرسل الله ملائكة لهداية البشر، بل جعل الأنبياء من جنسهم، ليُعلّموهم ويأخذوا بأيديهم إلى طريق الحق.
  • نزول الكتب السماوية لهدايته: أعظمها القرآن الكريم، الذي خُصّ به الإنسان، ليكون له نورًا وهداية ورحمة.
  • تسخير الكون لخدمته: الشمس والقمر، الليل والنهار، الأرض والمطر، كلها مسخّرة لخدمة الإنسان، كما قال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ﴾ الجاثية: 13
  • منحه فرصة التوبة والمغفرة مهما بلغت ذنوبه: وهذه من أعظم صور الكرم، حيث يبسط الله يده للتائب، وينادي كل ليلة: “هل من مستغفر فأغفر له؟”

كيف يرتقي الإنسان في ميزان الله؟

إن قيمة الإنسان الحقيقية عند الله تُبنى على عدة أمور، أبرزها:

  1. الإيمان الصادق: فالعقيدة السليمة هي أساس الرفعة عند الله، وقد قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ البينة: 7
  2. العمل الصالح: فالعمل هو ترجمة الإيمان، وبه تُرفع الدرجات، وتُغفر السيئات.
  3. الإخلاص في النية: عمل صغير مع إخلاص خير من عمل كبير ممزوج بالرياء.
  4. طلب العلم: العالم يرفع الله درجته، ويضع في قلبه نورًا، ويجعله سببًا في هداية الناس.
  5. نفع الناس: قال النبي ﷺ: “أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس”… فكل من يسعى لخدمة الناس ورفع الظلم عنهم، فهو قريب من الله، عالي المنزلة.

أمثلة من حياة الصحابة تُجسد المعنى

في زمن النبي ﷺ، لم تكن القيم المادية هي المقياس، بل كان الميزان هو التقوى والعمل. فبلال بن رباح، العبد الحبشي، ارتفعت منزلته حتى سمع النبي ﷺ خَشخشة نعليه في الجنة. وسلمان الفارسي، الذي جاء من بلاد بعيدة، قال عنه النبي ﷺ: “سلمان منا أهل البيت.”

بينما في الجاهلية، كانت القيمة مرتبطة بالنسب والقبيلة. لكن الإسلام جاء ليُعيد ترتيب الموازين، فربّ عبدٍ تقيّ عند الله خير من ألف غنيّ متكبّر.

 

كيف نترجم هذا الفهم في حياتنا؟

معرفتنا بأن القيمة عند الله لا تُقاس بالماديات يجب أن تنعكس على:

  • نظرتنا لأنفسنا: لا نُحقّر ذاتنا إن كنا فقراء أو بلا جاه، ما دمنا مستقيمين ومخلصين لله.
  • نظرتنا للناس: نُقدّر الصالحين، ولو لم يكونوا مشهورين، ونحترم من يُحب الله، لا من تُلمعهم الشاشات.
  • أسلوب تعاملنا: نُحسن للناس، ولا نُعاملهم على قدر أموالهم، بل على قدر تقواهم وأخلاقهم.

الخاتمة

قيمة الإنسان عند الله لا تُقاس بالشهرة ولا المال، ولا بالمظهر ولا النسب، بل تُقاس بنقاء القلب، وصدق النية، وصلاح العمل، وتقوى السر والعلن. هذه هي الموازين التي لا تتبدّل، وهي التي تظل ثابتة في الدنيا والآخرة.

فلنُعيد ترتيب أولوياتنا، ولننظر للناس بعين الله لا بعين المجتمع، ولنجعل معيارنا هو التقوى، لا التفاخر. فكم من إنسان خامل في الأرض، مغمور بين الناس، لكنه عند الله أثقل من الجبال.

اللهم ارزقنا قلوبًا عامرة بالإيمان، وأعمالًا صالحة ترفع مقامنا عندك، واجعلنا ممن إذا نظر إليهم قلت: “إني أحب عبدي هذا.”

روابط تحميل البحث

تحميل البحث

تحميل البحث