البراكين
بوابات الأرض إلى باطنها الناري وتأثيرها على الكوكب والحياة

مقدمة
تُعد البراكين (Volcanoes) من أروع الظواهر الطبيعية وأكثرها قوة، فهي تُمثل قنوات تُطلق من خلالها الأرض طاقتها الكامنة وتُعيد تشكيل سطحها باستمرار. منذ الأزل، أثارت الثورانات البركانية الرهبة والإعجاب في قلوب البشر، وشكلت جزءًا لا يتجزأ من الأساطير والخرافات في مختلف الحضارات. لكن خلف هذه الظاهرة المهيبة، تكمن عمليات جيولوجية معقدة تُسهم في فهمنا لبنية كوكب الأرض وتطوره. البراكين ليست مجرد تلال تُنفث منها النار والدخان؛ بل هي تعبير عن النشاط المستمر للصفائح التكتونية، ودورة المواد في باطن الأرض. تُقدم لنا البراكين لمحة مباشرة عن العمليات التي شكلت قاراتنا، وكونت معادننا، وساهمت في تشكيل غلافنا الجوي. يهدف هذا البحث إلى استكشاف مفهوم البراكين، وتصنيفاتها، وآلية ثورانها، وأنواع المواد التي تُقذف منها، وصولًا إلى آثارها المتنوعة على البيئات الطبيعية والمجتمعات البشرية. كما سيتناول البحث الجوانب الإيجابية والسلبية للنشاط البركاني، ودور العلماء في مراقبتها والتنبؤ بثوراناتها، مما يُسهم في تعميق فهمنا لهذه الظاهرة الطبيعية الساحرة والمدمرة في آن واحد.
مفهوم البركان وآلية تكونه
البركان هو فتحة (شق أو فوهة) في قشرة الأرض تسمح بخروج الصهارة (Magma) والرماد البركاني والغازات من باطن الأرض إلى السطح. عندما تصل الصهارة إلى السطح، تُسمى حمم بركانية (Lava).
نظرية الصفائح التكتونية والبراكين: تُفسر نظرية الصفائح التكتونية، وهي نفس النظرية التي تُفسر الزلازل، معظم النشاط البركاني على الأرض. تحدث معظم البراكين على طول حدود الصفائح التكتونية، حيث تتفاعل هذه الصفائح العملاقة:
حدود الصفائح المتقاربة (Convergent Plate Boundaries):
مناطق الاندساس (Subduction Zones): تحدث عندما تنغمس صفيحة تكتونية تحت صفيحة أخرى (عادة صفيحة محيطية تحت صفيحة قارية أو صفيحة محيطية أخرى). مع انغماس الصفيحة في الوشاح، ترتفع درجة حرارتها وينخفض نقطة انصهار الصخور بسبب إضافة الماء. يُؤدي ذلك إلى انصهار جزئي للصخور، وتكوين صهارة أقل كثافة تصعد إلى السطح، مُكونة سلاسل جبلية بركانية على اليابسة (مثل جبال الأنديز) أو أقواس جزر بركانية في المحيط (مثل اليابان أو إندونيسيا). تُعرف هذه المناطق بـ “حزام المحيط الهادئ الناري” (Pacific Ring of Fire) حيث يقع معظم النشاط البركاني في العالم.
حدود الصفائح المتباعدة (Divergent Plate Boundaries):
أحواض منتصف المحيط (Mid-Ocean Ridges): حيث تتباعد الصفائح عن بعضها البعض، مما يسمح لصعود الصهارة من الوشاح لملء الفراغ، وتكوين قشرة محيطية جديدة. تُعد هذه العملية مسؤولة عن تكوين أكبر سلسلة جبلية على الأرض (تحت الماء). النشاط البركاني هنا غالبًا ما يكون هادئًا نسبيًا ويحدث تحت سطح البحر، لكن يمكن ملاحظته في أماكن مثل أيسلندا حيث يرتفع الحيد المتباعد فوق سطح البحر.
النقاط الساخنة (Hotspots):
- لا تقع جميع البراكين على حدود الصفائح. تُعد النقاط الساخنة مناطق تُوجد فيها أعمدة صهارة (Mantle Plumes) ثابتة نسبيًا ترتفع من عمق الوشاح وتُخترق القشرة التكتونية المتحركة فوقها.
- مع تحرك الصفيحة فوق النقطة الساخنة، تُتكون سلسلة من البراكين التي تُصبح غير نشطة تدريجيًا كلما ابتعدت عن النقطة الساخنة. تُعد جزر هاواي مثالًا كلاسيكيًا على سلسلة براكين تكونت فوق نقطة ساخنة.
أنواع البراكين وتصنيفاتها
تُصنف البراكين بناءً على شكلها، وحجمها، وطبيعة ثوراناتها:
البراكين الدرعية (Shield Volcanoes):
- الشكل: تُشبه الدرع المائل الموضوع على الأرض، ذات منحدرات لطيفة وقاعدة واسعة جدًا.
- الحمم: تُتكون من حمم بازلتية منخفضة اللزوجة (تتدفق بسهولة) وتنتشر لمسافات طويلة.
- الثوران: ثورانات هادئة نسبيًا وغير متفجرة، مع تدفقات حمم بركانية تُشكل طبقات متتالية.
- أمثلة: براكين هاواي (مثل ماونا لوا وكيلويا).
البراكين الطبقية أو المخروطية المركبة (Stratovolcanoes / Composite):
- الشكل: مخروطية الشكل، ذات جوانب شديدة الانحدار وفوهة في القمة.
- الحمم والمواد: تُتكون من طبقات متتالية من الحمم البركانية الأكثر لزوجة (تتدفق ببطء) والرماد البركاني والصخور البركانية (تفرا) المتصلبة من ثورانات سابقة.
- الثوران: ثورانات متفجرة وعنيفة جدًا بسبب تراكم الغازات تحت ضغط عالٍ في الصهارة اللزجة. يمكن أن تُطلق تدفقات بايروكلاريتية (Pyroclastic flows) وانهيارات طينية بركانية (Lahars).
- أمثلة: جبل فيزوف (إيطاليا)، جبل سانت هيلين (الولايات المتحدة)، جبل فوجي (اليابان).
براكين مخروط الرماد (Cinder Cone Volcanoes):
- الشكل: أصغر أنواع البراكين، ذات منحدرات شديدة الانحدار وفوهة عميقة في القمة.
- الحمم والمواد: تُتكون بشكل أساسي من شظايا حمم بركانية متصلبة (تفرا) تُقذف في الهواء وتتساقط حول الفوهة.
- الثوران: ثورانات متفجرة ولكنها قصيرة الأمد نسبيًا.
- أمثلة: جبل باريكوتين (المكسيك)، العديد من المخاريط الصغيرة في مناطق بركانية أكبر.
القباب الحممية (Lava Domes):
- الشكل: تُتكون من حمم لزجة جدًا تتدفق ببطء شديد وتتراكم فوق الفوهة لتُشكل شكلًا قُببيًا.
- الثوران: يمكن أن تكون خطيرة لأن الحمم اللزجة تُحبس الغازات، مما يُؤدي إلى ثورانات انفجارية.
- أمثلة: جبل سانت هيلين (بعد ثوران 1980، تكونت قبة حممية داخل فوهته).
مكونات الثوران البركاني
عندما يثور البركان، يُطلق مجموعة متنوعة من المواد الخطرة:
مواد الثوران البركاني:
- الحمم البركانية (Lava Flows):
- هي الصهارة التي تصل إلى سطح الأرض وتتدفق.
- تختلف في لزوجتها وسرعة تدفقها. الحمم البازلتية منخفضة اللزوجة وتتدفق بسرعة نسبيًا، بينما الحمم الريوليتية عالية اللزوجة وتتدفق ببطء شديد.
- على الرغم من أنها تُدمر كل ما في طريقها، إلا أنها غالبًا ما تكون بطيئة بما يكفي ليتمكن الناس من الهروب منها. الخطر الرئيسي هو تدمير الممتلكات.
- الغازات البركانية (Volcanic Gases):
- تُطلق البراكين غازات مثل بخار الماء (الأكثر شيوعًا)، وثاني أكسيد الكربون (CO2)، وثاني أكسيد الكبريت (SO2)، وكبريتيد الهيدروجين (H2S)، وكلوريد الهيدروجين (HCl).
- يمكن أن تكون هذه الغازات سامة للإنسان والحيوان، وتُساهم في تكوين الأمطار الحمضية. تُشكل سحابة ثاني أكسيد الكبريت خطرًا على المناخ والغلاف الجوي.
- الرماد البركاني (Volcanic Ash):
- يتكون من شظايا صغيرة جدًا من الصخور، والمعادن، والزجاج البركاني، تُقذف في الغلاف الجوي أثناء الثورانات المتفجرة.
- يمكن أن يُسافر الرماد لمسافات طويلة جدًا، ويُسبب مشاكل صحية (مشاكل في الجهاز التنفسي)، ويُعيق حركة الطيران، ويُسبب انهيار الأسقف بسبب تراكمه، ويُلحق الضرر بالمحاصيل.
- القذائف البركانية (Volcanic Bombs and Blocks):
- هي قطع صخرية أكبر من الرماد، تُقذف من البركان أثناء الثورانات المتفجرة. يمكن أن تكون ساخنة جدًا وتُسبب إصابات خطيرة أو دمارًا.
- التفرا (Tephra): مصطلح عام يُطلق على جميع المواد الصلبة (رماد، قذائف، كتل) التي تُقذف في الهواء أثناء الثوران.
المخاطر الإضافية المرتبطة بالبراكين
- التدفقات البايروكلاريتية (Pyroclastic Flows):
- هي مزيج سريع الحركة من الغازات الساخنة جدًا والرماد البركاني وشظايا الصخور، تتدفق على جوانب البركان بسرعة تصل إلى مئات الكيلومترات في الساعة ودرجات حرارة تصل إلى 1000 درجة مئوية.
- تُعد من أخطر الظواهر البركانية وتُسبب دمارًا شاملًا للمناطق التي تمر بها.
- الانهيارات الطينية البركانية (Lahars):
- هي تدفقات طينية سريعة تتكون من الرماد البركاني، والحمم، والمياه (من الأمطار الغزيرة أو ذوبان الثلوج/الجليد على البركان).
- يمكن أن تنتقل لمسافات بعيدة عبر الوديان وتُدمر كل ما في طريقها.
- الزلازل البركانية (Volcanic Earthquakes):
- تحدث الزلازل غالبًا قبل وأثناء الثورانات البركانية بسبب حركة الصهارة داخل البركان أو بسبب انهيار الأقبية الصهارية. تُستخدم هذه الزلازل للمساعدة في التنبؤ بالثورانات.
- تسونامي (Tsunamis): يمكن أن تُسبب الانهيارات الأرضية الضخمة التي تُحفزها البراكين (خاصة في الجزر البركانية) موجات تسونامي مدمرة.
الآثار البيئية والاقتصادية والاجتماعية للبراكين
للبراكين آثار عميقة ومتنوعة، إيجابية وسلبية، على البيئة والاقتصاد والمجتمع.
الآثار السلبية:
- الدمار الشامل للممتلكات والبنية التحتية: تُدمر تدفقات الحمم، والتدفقات البايروكلاريتية، والانهيارات الطينية المدن، والطرق، والمزارع، والمرافق العامة.
- الخسائر البشرية: يمكن أن تُؤدي الثورانات الكبيرة إلى وفيات وإصابات واسعة النطاق.
- تعطيل الحياة اليومية والاقتصاد: يُؤثر الرماد البركاني على حركة الطيران، ويُغلق المدارس، ويُعطل الأعمال التجارية.
- تلوث الهواء والماء: تُطلق الغازات والرماد موادًا كيميائية تُلوث الهواء والمياه، وتُؤثر على جودة الحياة وصحة الكائنات الحية.
- التأثير على المناخ: الثورانات البركانية الكبيرة (خاصة تلك التي تُطلق كميات هائلة من ثاني أكسيد الكبريت) يمكن أن تُؤثر على المناخ العالمي عن طريق حجب أشعة الشمس، مما يُؤدي إلى تبريد مؤقت للغلاف الجوي.
- تدمير النظم البيئية: تُدمر الثورانات الغابات، والموائل الطبيعية، وتُغير من التنوع البيولوجي في المنطقة.
الآثار الإيجابية:
- تكوين الأراضي الجديدة: تُشكل تدفقات الحمم البركانية جزرًا جديدة وتُوسع الأراضي القائمة (مثل جزر هاواي).
- تربة خصبة: تُوفر المواد البركانية المتحللة تربة غنية بالمعادن والمغذيات، مما يجعل المناطق البركانية مناطق زراعية خصبة جدًا.
- المعادن والموارد: تُعد المناطق البركانية مصادر غنية بالمعادن الثمينة مثل الذهب، والفضة، والنحاس، والماس (في أنواع معينة من الصخور البركانية).
- الطاقة الحرارية الجوفية (Geothermal Energy): تُستخدم الحرارة الناتجة عن النشاط البركاني لتوليد الكهرباء في بعض المناطق، مما يُعد مصدرًا للطاقة النظيفة والمتجددة (مثل أيسلندا، نيوزيلندا، الفلبين).
- المواقع السياحية: تُعد البراكين النشطة والخامدة وجهات سياحية رئيسية، مما يُساهم في الاقتصاد المحلي.
- التحكم في غازات الاحتباس الحراري: تُطلق البراكين ثاني أكسيد الكربون، لكنها في الدورات الجيولوجية الطويلة، تُسهم في دورة الكربون على الأرض من خلال تفاعلات كيميائية تُساعد على امتصاص ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي وتخزينه في الصخور الرسوبية.
مراقبة البراكين والتنبؤ بالثوران البركاني
تُعد مراقبة البراكين أمرًا بالغ الأهمية لحماية الأرواح والممتلكات، خاصة في المناطق المأهولة بالسكان. على عكس الزلازل، يُمكن التنبؤ بالثورانات البركانية بشكل عام بدقة أكبر، مما يُتيح للسلطات الوقت لإخلاء المناطق المعرضة للخطر.
أساليب مراقبة البراكين:
- الرصد الزلزالي (Seismic Monitoring):
- تُثبت شبكات من أجهزة السيزموجراف حول البركان.
- تُشير الزيادة في تواتر وشدة الزلازل الضحلة إلى حركة الصهارة داخل البركان، مما يُعد علامة رئيسية على اقتراب الثوران.
- قياس تشوه الأرض (Ground Deformation Monitoring):
- تُستخدم أجهزة مثل مقياس الميل (Tiltmeters) وأنظمة تحديد المواقع العالمية (GPS) والمسح بالرادار ذو الفتحة الاصطناعية (InSAR) لقياس أي انتفاخ أو تغير في شكل البركان.
- يُشير الانتفاخ إلى تزايد الضغط داخل البركان بسبب صعود الصهارة.
- مراقبة انبعاثات الغازات البركانية (Gas Emissions Monitoring):
- تُحلل أنواع وكميات الغازات البركانية المنبعثة من الفوهة أو الشقوق البركانية.
- تُشير التغيرات في تركيز الغازات (خاصة ثاني أكسيد الكبريت وثاني أكسيد الكربون) إلى أن الصهارة أقرب إلى السطح.
- مراقبة درجة الحرارة (Thermal Monitoring):
- تُستخدم الكاميرات الحرارية ومستشعرات الأشعة تحت الحمراء لمراقبة التغيرات في درجة حرارة سطح البركان أو المياه في البحيرات البركانية. تُشير الزيادة في درجة الحرارة إلى صعود الصهارة.
- المراقبة الهيدرولوجية (Hydrological Monitoring):
- مراقبة التغيرات في مستويات وتركيب المياه في الأنهار والجداول المحيطة بالبركان، والتي يمكن أن تتأثر بالنشاط الحراري الجوفي.
أنظمة الإنذار والتأهب:
- بناءً على بيانات المراقبة، يُصدر علماء البراكين تحذيرات من مستويات مختلفة تُشير إلى احتمالية الثوران.
- تُضع خطط طوارئ وإخلاء مفصلة للمجتمعات القريبة من البراكين النشطة.
- تُثقف المجتمعات حول المخاطر البركانية وكيفية التصرف أثناء الثوران.
- تُساعد الأقمار الصناعية في مراقبة البراكين عن بعد، خاصة في المناطق النائية أو التي يصعب الوصول إليها.
الخاتمة
تُعد البراكين ظواهر جيولوجية استثنائية، تُقدم نافذة فريدة على العمليات الديناميكية التي تُشكل كوكب الأرض من باطنه. إن فهم آلياتها، من حركة الصفائح التكتونية إلى تدفقات الصهارة تحت السطح، يُعد أمرًا حيويًا ليس فقط من منظور علمي، بل أيضًا لسلامة المجتمعات التي تُقيم بالقرب من هذه العمالقة النارية. فبينما تُشكل البراكين مصدرًا للمخاطر الطبيعية الهائلة، من تدمير المدن إلى تغيير المناخ، فإنها تُقدم في الوقت ذاته فوائد جمة من التربة الخصبة إلى مصادر الطاقة المتجددة. تُشير قدرتنا المتزايدة على مراقبة البراكين والتنبؤ بثوراناتها إلى انتصار ملحوظ للعلم، مما يُمكننا من التخفيف من آثارها المدمرة وحماية الأرواح. ومع استمرار الكوكب في نشاطه الجيولوجي، ستظل البراكين تُذكرنا بقوتها الخام، وتُحفزنا على مواصلة البحث والتعلم، لضمان التعايش المستدام مع هذه الظواهر المهيبة التي تُشكل جزءًا لا يتجزأ من هويتنا الكوكبية.