إرادة الدنيا بعمل الآخرة

مقدمة

يُعد العمل للآخرة من أجل الدنيا من أخطر الآفات التي تُفسد الأعمال الصالحة وتُحبطها، وتُذهب أجورها وثوابها، بل قد تجعلها وبالًا على صاحبها يوم القيامة. إنها حالة قلبية مُنكرة تتمثل في استخدام الأعمال التي شُرعت للتقرب إلى الله تعالى وابتغاء ثوابه الأخروي كوسيلة لتحقيق مكاسب دنيوية زائلة من مال أو جاه أو مدح أو ثناء. يُعرف هذا الفعل المشين بأنه “إرادة الدنيا بعمل الآخرة”. إنه نوع من النفاق العملي والشرك الخفي الذي يُنافي الإخلاص ويُبطل المقصد الشرعي من العبادات والأعمال الصالحة. إن فهم حقيقة هذه الآفة الخطيرة وأنواعها ودوافعها وعلاماتها وآثارها المدمرة على الفرد والمجتمع في الدنيا والآخرة، والسبل الكفيلة بتجنبها وتطهير النية من شوائبها، يمثل ضرورة حتمية لكل مسلم يسعى لنيل رضا الله والفوز بجنته. فالعامل للآخرة من أجل الدنيا كالمتاجر الذي يبيع سلعة نفيسة بثمن بخس، بل هو خاسر في الدارين.

 

تعريف إرادة الدنيا بعمل الآخرة وحقيقتها في الإسلام

يُعرف “إرادة الدنيا بعمل الآخرة” بأنها: “فعل العبد للعبادة أو العمل الصالح الذي شُرع للتقرب إلى الله وابتغاء ثوابه الأخروي، ولكن يكون قصده الأساسي من هذا الفعل تحقيق مصلحة دنيوية عاجلة من مال أو جاه أو منصب أو مدح أو ثناء أو غير ذلك”.

حقيقة هذه الآفة تكمن في جعل العمل الأخروي وسيلة للوصول إلى غايات دنيوية، وهذا يُنافي الإخلاص الذي هو تجريد القصد لله وحده في العمل. فالعامل هنا يُقايض ما هو باقٍ بما هو فانٍ، ويبيع ما هو نفيس بما هو خسيس.

 

أنواع إرادة الدنيا بعمل الآخرة ودوافعها

تتعدد صور إرادة الدنيا بعمل الآخرة وتختلف دوافعها، ومن أبرز أنواعها:

  • فعل العبادة لغرض دنيوي محض: كأن يصلي ليُرى ويُمدح، أو يتصدق ليُقال عنه جواد، أو يحج ليحصل على لقب أو منصب.
  • استخدام العلم الشرعي للوصول إلى المناصب والوجاهة: كأن يتعلم ليُصبح قاضيًا أو مفتيًا ليحصل على المال والجاه.
  • إظهار الزهد والتقوى لكسب ثقة الناس وأموالهم: كأن يُظهر التخشع والورع ليُقبل الناس على معاملته التجارية.
  • المتاجرة بالدين لتحقيق مكاسب سياسية أو اجتماعية: كاستغلال الدين للوصول إلى السلطة أو كسب التأييد الشعبي.
  • التظاهر بالخير والصلاح لجلب النفع أو دفع الضر الدنيوي: كأن يُظهر الاستقامة ليُزوج أو ليُشفى من مرض.

أما دوافع إرادة الدنيا بعمل الآخرة فترجع في الغالب إلى:

  • ضعف الإيمان بالآخرة وقلة اليقين بما عند الله من الثواب: فيرى العامل أن العاجل خير له وأولى بالاهتمام.
  • حب الدنيا والتعلق بها والحرص على تحصيل لذاتها وشهواتها الفانية.
  • الجهل بفضل الإخلاص وعظيم أجره عند الله تعالى.
  • اتباع الهوى والشيطان وتزيينهما للعمل من أجل الدنيا.
  • الخوف من الفقر والحاجة والرغبة في الغنى والرخاء الدنيوي.
  • طلب المنزلة والجاه والرئاسة بين الناس.

علامات إرادة الدنيا بعمل الآخرة التي تدل عليها

هناك علامات تظهر على من يريد بعمله الآخرة الدنيا وتدل على هذه الآفة القلبية، منها:

  • الاهتمام الظاهر بالعبادة مع ضعف الباطن: يُظهر الخشوع والتذلل أمام الناس ولكنه قاسي القلب في السر.
  • تغير العمل بتغير الأحوال الدنيوية: يزيد اجتهاده في العبادة إذا رأى فيها مصلحة دنيوية وينقص إذا فاتت المصلحة.
  • الحرص الشديد على نيل ثناء الناس ومدحهم: وربط العمل برضا المخلوق لا برضا الخالق.
  • السخط عند فوات المصلحة الدنيوية من العمل الأخروي: كأن يغضب إذا لم يحصل على المال أو المنصب الذي كان يرجوه بعمله الصالح.
  • تفضيل العاجل على الآجل: وإيثار المكاسب الدنيوية على الثواب الأخروي.
  • الفتور والملل من العبادة إذا لم تتحقق المقاصد الدنيوية: يفقد الحماس للعمل الصالح إذا لم يرَ فيه نفعًا دنيويًا قريبًا.

الآثار المدمرة لإرادة الدنيا بعمل الآخرة على الفرد والمجتمع في الدنيا والآخرة

لإرادة الدنيا بعمل الآخرة آثار وخيمة وعواقب مدمرة على الفرد والمجتمع في الدنيا والآخرة:

على الفرد في الدنيا:

  • فقدان الإخلاص: وهو أساس قبول العمل.
  • عدم البركة في العمل وفي الحياة: لأن الله لا يبارك في عمل قُصد به غير وجهه.
  • القلق والاضطراب: لأنه يعيش في صراع بين ظاهر عمله وباطن نيته.
  • الحرمان من حلاوة الإيمان ولذة العبادة الحقيقية.
  • الوقوع في النفاق العملي.

على الفرد في الآخرة:

  • حبوط العمل وعدم قبوله: قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1 (هود: 15-16).  
  • العذاب الشديد والوعيد بالنار: لأنه استبدل الأدنى بالأعلى وباع الآخرة بعَرَض قليل من الدنيا.

على المجتمع:

  • ضعف الدين وانتشار المظاهر الكاذبة للتدين.
  • فقدان الثقة بين الناس: لأن الدافع للعمل ليس الحق والخير بل المصلحة الدنيوية.
  • تأخر النصر والتمكين: لأن الله لا ينصر قومًا تكون مقاصدهم دنيوية بحتة.
  • انتشار الفساد والمتاجرة بالدين لتحقيق المنافع الشخصية.

السبل العملية لتجنب إرادة الدنيا بعمل الآخرة وتطهير النية

هناك سبل عملية وفعالة لتجنب هذه الآفة الخطيرة وتطهير النية وتجريد القصد لله تعالى في كل عمل، منها:

  • تقوية الإيمان بالآخرة واليقين بما عند الله من الثواب الجزيل: واستحضار فناء الدنيا وبقاء الآخرة.
  • الزهد في الدنيا وعدم التعلق بها: وتذكر أنها دار ممر لا دار مقر.
  • تعلم فضل الإخلاص وعظيم أجره عند الله تعالى: واستحضار عظمة الله وأنه المستحق وحده للعبادة والقصد.
  • مجاهدة النفس ومراقبة النيات بدقة: ومحاسبتها قبل العمل وأثناءه وبعده، وتجديد النية وتصحيحها باستمرار.
  • الاستعانة بالله تعالى: واللجوء إليه بالدعاء والتضرع أن يُخلص القلب من شوائب إرادة الدنيا ويُعينه على الإخلاص.
  • إخفاء الأعمال الصالحة قدر المستطاع: والحرص على السرية في العبادات النافلة.
  • تذكر عظمة الله وعلمه ب السرائر والنيات: وأن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
  • مصاحبة الصالحين المخلصين: والاقتداء بهم في إخلاصهم وتجريدهم للقصد لله تعالى.
  • قراءة القرآن الكريم وتدبر آياته التي تحث على الإخلاص وتذم الرياء وإرادة الدنيا بعمل الآخرة.
  • كثرة ذكر الموت والقبر والآخرة وأهوالها: فإن ذلك يُزهّد العبد في الدنيا ويُذكره بالدار الباقية.

أهمية الإخلاص وتجريد القصد لله في كل عمل وخطورة المتاجرة بالدين من أجل الدنيا

إن الإخلاص هو روح العمل وقبوله عند الله تعالى، وهو أساس الفلاح والنجاة في الدنيا والآخرة. وإرادة الدنيا بعمل الآخرة هي متاجرة خاسرة تُفقد العبد أجره في الآخرة وقد تُعرضه للعقوبة، ولا يحصل منها في الدنيا إلا على ما قُدّر له أصلاً. إن المتاجرة بالدين من أجل الدنيا من أخطر الآفات التي تُفسد الدين والدنيا على صاحبها. يجب على كل مسلم أن يجتهد في تطهير نيته وتجريد قصده لله تعالى في كل عمل يؤديه، وأن يحذر من هذه الآفة المهلكة التي تُذهب الخير وتجلب الشر.

 

الخاتمة

إن إرادة الدنيا بعمل الآخرة هي آفة عظيمة ومتاجرة خاسرة تُحبط الأعمال وتُبعد العبد عن الله وتُعرضه للعذاب. يجب على كل مسلم أن يفهم حقيقتها وأنواعها ودوافعها وعلاماتها وآثارها المدمرة. والسبيل إلى النجاة من هذه الآفة الخطيرة هو تقوية الإيمان بالآخرة والزهد في الدنيا ومجاهدة النفس ومراقبة النيات وتجريد القصد لله تعالى في كل عمل، والاستعانة بالله في ذلك. فالإخلاص هو أساس القبول وروح العبادة وسبيل الفوز برضا الله وجنته والنجاة من عذابه. فلنسع جميعًا لتطهير نياتنا وتجريد مقاصدنا لله وحده في كل أعمالنا، سائلين الله تعالى أن يُخلص قلوبنا وأعمالنا لوجهه الكريم وأن يجعلنا من عباده المخلصين الذين لا يريدون بعمله إلا وجهه الكريم. إن الله سميع عليم.

روابط تحميل البحث

تحميل البحث

تحميل البحث